قادتني قدماي إلى أسواق بغداد و دكاكينها ، كنت
في حاجة إلى الترويح عن النفس بعد يوم طويل
من العمل في حدائق القصر . في شارع المتنبي
حيث مقر البعثات الدبلوماسية لبلاد الهند و السند
وفارس غيرها من الأجناس ... دلفت لحانة – حانة طرفة كما هو مكتوب على اللافتة
و بخط مغربي جميل - باحثا عن أبي نواس ، دلني الساقي بحركة من رأسه وجدته غارقا بين
قنينات ، طلبت من الساقي أن يعدها و يجمعها من أمامه ، نفتحه عشرين دينارا . جلست إلى
صديقي أبي نواس فقد درسنا معا في الكتّاب منذ
سنوات ، ذهب هو إلى البصرة حيث درس القانون
الدستوري بينما تابعت انأ دراستي في الكوفة في فن البستنة و علم النبات . اشتغلت بقصر الخليفة
هارون الرشيد بعد وساطة و رشاوى . ورغم اختلافنا ظلت الصداقة متينة بيننا ...سألته
عن رغبته في الترشح للانتخابات المقبلة ... صدرت عنه قهقهة كبيرة ملأت أرجاء الحانة
ثم رأيت دمعتين حارقتين تتسللان من مقلتيه . حاول أن ينهض من مكانه فلم يستطع . أشار
للساقي بعلامة النصر ، عرفت انه طلب جعتين باردتين .. فالحرارة في شارع المتنبي كانت
لافحة .. و حرارة الانتخابات المقبلة تنبئ بصراع
محتدم ، خاصة ، بعد أن أسس فقهاء المساجد حزبا جديدا أسموه حزب الزيادة و الترضية بمباركة
من هارون الرشيد ...قلت لأبي نواس إن الحزب الجديد سيحصل على اغلب المقاعد ، فلماذا لا تترشح باسمه في مقاطعة
من ضواحي بغداد و أنت من فقهاء القانون الدستوري
في هذا البلد ... ابتسم أبو نواس حتى ظهرت قواطعه البيضاء مثل حبات الفول رغم إدمانه
، فقد كان كثير الاستعمال لعود عرق السوس المجلوب من بلاد المغرب ، وأمنية أبو نواس
أن يزور المغرب الذي سمع عنه الكثير .. ربّت
على كتفي و قال : أنا لا أحب الكذب يا صاح أحب أن أكون ماجنا و سكيرا على أن أكون بهلوانيا
في مجال السياسة .ثم قال : ما معنى حزب الزيادة و الترضية ؟، لم أسمع بمثل هذا الحزب
، أعرف حزب الحشاشين وحزب القرامطة و البرامكة
و حزب الصعاليك الجدد ..و هو الحزب الأقرب
إلى نفسي ، قلت له مبتسما : حزب الزيادة والترضية يعني أولا ، زيادة في سواد الأمة
، حتى يفتخر بنا رسولنا الأعظم و على العموم الزيادة في كل شيء ، ومن له القدرة على
الإضافة ، فليضف ما شاء ، كما هو الحال في أسواق بغداد هذه الأيام .و الترضية معناها
ترضية النفس بما يليق بها من الشهوات و ترضية المقربين وقهر البسطاء لأنهم عالة ...فجأة انتبهت أني أتكلم
بصوت مسموع .. فقلت له : إن بالحانة مخبرين ، ابتسم و أشار إلى أحدهم يجلس منزويا و
قال : هو مراقب الحي هنا في بغداد لن يستطيع أن يقول شيئا خوفا من هجائي . قريبا منى رأيت شخصين يحييان أبا نواس من بعيد ..
وحين سألته عنهما قال : هما والبة بن حباب و حماد
عجرد . سأل أبو نواس الساقي المزيد من الجعات لكنه رفض ، مذكرا إياه بالقانون المسموح بعدد القنينات في البلاد .. امتثل للأمر
..خرجنا من الحانة ، كان الليل في منتصفه ، و شوارع بغداد خالية إلا من ثلة من شباب
يسمرون و ينشدون شعرا ..بدأ أبو نواس بدوره ينشد شعرا ، كنت أرهف السمع إليه حتى ذكر
اسم جنان ، قلت له من تكون جنان هذه ؟ التفت
إليّ و ضرب على صدره مكان القلب تماما و قال
: هي كل شيء ...كيف الوصول إليها ؟ صمتت ، لا أريد أن أقلب مواجع الرجل . سرنا على
ضوء المشاعل المتوهجة التي تضيء الشارع دون خوف ،لأن الناس في مملكة الرشيد تخاف من
ظلها . قلت له من جديد
، ما رأيك في ما طرحته عليك ، الانتخابات هي فرصة لك ، و الوصول حتى لمعشوقة الفؤاد جنان هذه ، التي أضنت قلبك . المال و السلطة تأتيان
بالمستحيل . نظر إليّ ثم تقدم نحو الحائط الذي رسمت عليه صور المرشحين لفنان من بلاد فارس ، رسوم
لوجوه الشعراء و الفقهاء و الكتبة ولصوص بغداد
و أرقامهم و برامجهم الانتخابية...فك أزرار
سرواله الفضفاض و افرغ متانته ملتفتا خوفا من عسس الخليفة هارون الرشيد . ثم أطلق قهقهة
تردد صداها في الشارع الخال من المارة ...سألته
عمّا يقولونه حول توبته ، ابتسم ثم
اقترب مني كما لو كان يخاف أن يسمعه أحد و قال : ماذا فعلت لأتوب ؟ ، حين يتوب اللصوص
و القتلة وتجار الدين و فقهاء الخليفة و غيرهم
، عندئذ أفكر في ترك هذه الحانات المنتشرة في بغداد ، و سأرحل إلى البادية أو الصحراء
حيث الصفاء و المرؤوة ...فقط أريد أن تكون معي جنان ..تحسس أبو نواس جيب معطفه من نوع
ترواكار الصوفي المصنوع ببلاد الهند وقال
: الليل مازال طويلا ، لكن الساقي منحني خفية لترا من النبيذ الصبوح التي تكلم عنها
عمرو بن كلثوم مقابل دينارين و هي مهربة من بلاد الأنوار ... و هكذا ترى أن كل شيء
في هذه البلاد يمكن أن يباع و يشترى ، أخرج القنينة تأملها على ضوء مشعل قريب وقال : حتى العسس يمكن
أن يشتروا فقط ببيت شعر .. فماذا تبقى في هذه
البلاد التي تبيع كل شيء ...طأطأت رأسي خجلا ، سرت دون أن أنبس ببنت شفة ..سرنا نحو
البيت الذي يكتريه أبو نواس بعد أن أقتنينا طعاما من محل المكدونالد الذي ما زال مفتوحا لأنه من أملاك الخليفة ، سمعت وقع خطوات تتعقبنا
، قال لي أبو نواس ، لا تخف ، هما من المخبرين . عاد إليهما و تحدث معهما قليلا ، رأيتهما ينسحبان و يشيران إليّ ....في الصباح
و عند باب قصر الرشيد حيث أريد الدخول إلى عملي كبستاني ، وجدت رسالة تطلب مني الالتحاق
فورا بعملي الجديد كمفتش للحانات في بغداد
و ضواحيها .....عندما أخبرت صديقي أبا نواس ، أشار عليّ بالهروب ، فهارون الرشيد كلما
أراد أن يفتك بأحدهم عيّنه مفتشا للحانات تمهيدا لقتله ...أعرف أن أبا نواس كان نديما
للخليفة قبل أن يغضب عليه ، و لا ينطق من فراغ ... وتسللت ليلا بلا زاد نحو بلاد المغرب
لأعبر إلى الأندلس لأبدأ حياة جديدة ...
قاص و روائي
مغربي عضو اتحاد كتاب المغرب و اتحاد كتاب الانترنيت المغاربية
0 التعليقات:
إرسال تعليق