قصة قصيرة : ذبذبات من الضفة الأخرى...‼إدريس
الواغيش
كما لو أنني أراه لأوّل مرة، يشبهني أو يكاد قليلا،
انتصب أمامي فجأة في المرآة، قبل أن يمرّ في الرواق اللولبي سريعا كشبح خرافي أتى
لتوِّه من عالم آخر. ظننته للوهلة الأولى جبرائيل جاء ليأخذ أمانته إلى مستقرّها
الأخير. خفت، تردّدت...، مع ذلك قلت: فلأقترب...، وليكن من أمري ما يكون!.
استرجعت اللحظة على عجل وركبت أجزاء الصورة على
بعضها من جديد، كان وجهًا عبوسًا وغامضًا.
اقتربت منه أكثر فأكثر ثم أمعنت النظر، فشككت في
أمرها. الأكيد أن المرآة ساقطة ومتملقة وكاذبة كما عهدي بها في الغالب. كثيرا ما
ضحكت عليّ، وأظهرتني على عكس ما أبتغي. كانت ضبابية بعض الشيء، وجوانبها باهتة
ومتآكلة. الذي أعلمه علم اليقين ومتأكد منه هو أنها فقدت مصداقيتها معي، و لم تعد
تطيق رؤيتي كما كانت في البداية، لذلك كنت على حقّ وأنا أتخذ قرار عدم الثقة بها
إطلاقا ولا في أمثالها حتى في الأماكن العامة. هل كنت على صواب؟ أم كان عليّ فقط أن
أنظف ما علق بها من غبار و كآبة، لتنجلي الصورة فيها بشكل أفضل؟ لم أفعل!.
هل أتعِبتني
شهواتي الغامضة...، هل نسيتُ أن أنزل ستائر منتصف الليل كما تعوّدت، فاستفقت على
ضوء حارق في جبهتي، أم لأن حُلمي نفسه كان مرهقا منّي؟ حالة ، حتى وإن كانت عابرة،
فهي لا تنفع معي هاهنا في شيء.
مع ذلك قمت بصعوبة، رغم أني كنت في حاجة إلى المزيد
من المنام، لأستنفذ ما تبقي فيّ من ذبيب الشهوة إلى الحلم. لكني كنت مستعجلا في أمري، و لم يكن في إمكاني تأجيل ذلك إلى
الحلم المقبل، فقد يئست ، وإن مؤقتا، من حالي و أحلامي.
بدأت أحدث نفسي في البيت جيئة وذهابا، في انتظار أن
تأتي خطيئتي الأبديّة، تذكرت الأبخرة الداكنة في بيت خالتي الريفي، فراغات الحقول
في الفصول الشتويّة وحين تتعطل رغبة المحبين إلى الحب.
نظرنا إلى
بعضنا في دهشة وارتياب، كنا معا كمن يبحث عن خصمه منذ زمن سحيق، فوجده فجأة وهو
يستعد للرحيل.
كِدْنا معا
ننسى خصوماتنا المتكررة ونتصافح، نتعانق بحرقة الأحباب كأننا التقينا بعد غياب
طويل، لكنه في الأخير ورغم كل المحاولات غضب مني، فغضبت عليه.
قلت له :
- لم أنت هنا، هل تستريح مني أم من ركوب البحر؟
قال لي: وما خطبك أنت من تواجدي هنا؟
قلت: ما عهدتك باسما ولا راكب بحر، هل جئت لتراني؟!
قال لي : انْس أني هنا .... ، أنا هنا لست أنت !!
هممت بمصافحته، فاختفى. أجهدت نفسي في البحث عنه في
كل زوايا البيت دون جدوى. قلت مرة أخرى مع نفسي: فلأثق هذه المرة في المرآة حتى
وإن احتالت عليّ‼
أعدت النظر إليها، كانت مختلفة تماما، بدت لي برّاقة
وصافية على غير العادة، لكن فيها مكر وخديعة. مع انعطافتي الأولى، سمعت صوتا هاتفا
يردد بلا أثر: لا أريد أن أراك ...!.
حاولت
التأكد من مصدر الصوت، لم تكن إلا المرآة واقفة أمامي خالية من أي صورة.
متعب ومنهزم غادرت المكان، عدت إلى نفسي. حاولت أن
ألملم قواي وأستجمع صور الحلم - الرؤيا كما بدت لي في الحلم، لم أقوى على تذكر كل
ما جرى من أحداث.
ظهر لي ثانية في لمح البصر، همَمْت بمصافحه، فأمسك
يديه واستعصم قبل أن يغيب من جديد كما فعل في المرة الأولى!.
قال لي مناديا دون أن أراه أو يراني، والانفعال
مازال يسكنني:
- مكانك ...، لا زلنا بعيدين عن بعضنا !!
تمنيت لو أني قطعت البحر أو المحيط بقفزة واحدة،
مُغْمض العينين ودون انتظار طويل على الصخر المسنن قرب الشاطئ. أصَخت السمع إلى
الأمواج الهادرة بداخلي، فإذا بأصوات الغجريات والشقراوات تأتي ضاحكة على شكل
ذبذبات من الضفة الأخرى.
تطول
جَلساتي في كل مرة، حتى يَغلي رأسي من التعب فأعود خائبا من ذاتي إلى ذاتي. ودَدت
لو أني سجّلت كل الضحكات التي تأتي من الضفة الأخرى لتؤنسني في خلوتي، ترتسم كل
الابتسامات والصور التي تخيلتها في أحلامي لتغيّر من جغرافية وحدتي.
هل أجرؤ
على النوم بعد اليوم، أحلم من جديد بعوالم سعادة أبدية، بعيدا عن قلق يهزني كلما
أمعنت النظر في الحدائق المغتصبة منذ أيام الطفولة في ذاكرتي. السعال القادم من
البيت المجاور يفسد عليّ خلوتي، إنه من دون شك للأب العليل منذ سنوات في ذاكرتي.
أستحضر صورته فيزداد توتري. تُجافيني صحة الأم التي لم تعد تحافظ على فُتُوّتها،
فتبدو لي حزينة ومهمومة على غير عادتها. قمت أبحث عن فتيل لثورة العميان بداخلي،
فبدوت هذه المرة في هادئا في المرآة وغير متحفّز لأي خطوة أخرى. كنت غير متوتر
ومتّزن الحركات كمحاسب منعزل وراء مكتبه، ينتظر ما يجود به آخر الشهر‼.
0 التعليقات:
إرسال تعليق