السبت، 12 أبريل 2014

قصة قصيرة (ما حدث للمواطن عبد الله )إدريس الصغير

قصة قصيرة (ما حدث للمواطن عبد الله )إدريس الصغير
حيرة صادقة لطبيب في عيادة من آخر "موديل":
استرسل شعر لحيتي في غيبة عني، وغارت العينان في المحجرين واليدان رعش. وضعت قلبي بين كفي. قطعة لكم حمراء تنبض قال الطبيب نبضا طبيعيا وأضاف حانقا متعجبا. قلوبكم كلها هكذا. تدخنون وتشربون الخمرة الرخيصة وتحملون كل هموم الدنيا وتكدحون..لكن نبض قلوبكم يبقى دائما طبيعيا. نزع نظارتيه الطبيتين ووضعهما فوق المكتب الأنيق. وتضاجعون نساءكم مرات لا تحصى في اليوم. تعلقون جفون أعينكم وتطعمون الخبز والشاي، لكن نبض قلوبكم يبقى دائما طبيعيا. من أنتم؟ كان يوزع نظراته الحيرى بين وجهي الشاحب وكتب الطب المرصوفة بعناية على رفوف المكتبة الخشبية "آخر موديل".
تعريف مختصر جدا وصادق جدا:
أقسم بالله العلي العظيم. أني أنا المواطن عبد الله، لا أمارس السحر بل لا أومن حتى بوجوده، ولا أقيم جلسات لتحضير الأرواح. ولم يكتب لي فقيه "التباريد" أو ينجز لي حجابا. لا أبكي لكنني أتألم. تؤلمني الصفعة وتصرعني الركلة. يطفر الدم من جسدي ساخنا إذا لسعني الكرباج. يدور رأسي ويصيبني الغثيان إذا مل علقت أو طرحت أرضا. باختصار شديد، أنا مواطن عاد جدا.بشر. وجسدي لا يتحمل أكثر مما يمكن أن يتحمله البشر.
علاقة صادقة جدا في محطة قطار مهجورة:
محطة قطار مهجورة تغتسل تحت شآبيب المطر. سكة الحديد الصدئة الثعبانية وأسلاك الكهرباء وكراسي الانتظار الأسمنتية. كان رئيس المحطة قد تكوم في معطفه الأسود الصوفي ذي الأزرار النحاسية ومضى يغط فوق مقعده الخشبي. تمر القطارات من هنا مسرعة دون أن تتوقف يصم صفيرها الآذان ويهز ضجيجها المحطة المهجورة، لكنها لا تتوقف أبدا. قطار واحد في اليوم بتوقف ليلفظ راكبا أو اثنين وقد يحمل راكبا أو اثنين. قطار بطئ هرم صدئ العجلات. هنالك فقط يقوم رئيس المحطة بتكاسل ليحدث السائق ويعطيه شيئا أو يأخذ منه شيئا. ثم يغطي وجهه بطربوشه ويغط فوق مقعده الخشبي.هنا. في هذا المكان قررنا أن نلتقي. أنا وأنت وساعة المحطة ذات الأرقام الرومانية الصدئة كانت الريح تبعث بخصلات شعرك الحريري الناعم. وكان الدمع ينسكب من العينين مدرارا. وهذه الوثيقة بين يدي تثبت شرعية العلاقة بيننا كما يحددها العرف والقانون والدين. مدادا أسود فاحم وخط غير مقروء وتوقيعان مرتعشان. تمتد اليد إلى اليد بخوف. رعشة كهربائية صاعقة والدمع الساخن ينسكب على الخدين وذكراهما تتمثل.
هل يستطيع حضني أن يشعرك بالدفء كما كنت تشعرين في حضنه؟ هل تستطيعين تمسيد كتفي كما كانت تمسدها كل مساء؟ وأنا وأنت والمحطة المهجورة وذكراهما. الوثيقة ترتعش بين يدي والدمع ينسكب من عينيك ساخنا ساخنا.
في الصباح حين أشرقت الشمس الصفراء ماتا في غرفتين ضيقتين نتنتين مظلمتين باردتين موصدتين. وكنا نحمل السجائر والجبن والموز. وبكينا. تخبطنا. والوثيقة ترتعش بين يدي. تشيحين عني بوجهك واليد تمتد إلى اليد بخوف. والرعشة الكهربائية الصاعقة. يمر قطار بسرعة جنونية مرسلا صفيره الحاد فتهتزالمحطة المهجورة وتردد جوانبها الخالية صدى احتكاك العجلات بالسكة الحديدية الصدئة. ترقص الأسلاك الكهربائية السوداء الغليظة المبتلة. بينما يغط رئيس المحطة مكوما في معطفه الأسود تحت الساعة ذات الأرقام الرومانية تبينت من خلال زجاج نوافذ القطار وجوها ضاحكة وخيل لي أن السائق حياني بإشارة من يده. اليد تمتد إلى اليد بخوف.
الرعشة وذكراهما تمثل تمثل تمثل.
بداية صادقة لعلاقة إنسانية صادقة
اليد تشابك اليد والقلب ينبض يقول الطبيب طبيعيا. وأنا وأنت، أنا هنا. والمحطة المهجورة تغتسل تحت شآبيب المطر. نعود واليد تشابك اليد والقلب نبض. تسكن الأسلاك الكهربائية السوداء الغليظة الصدئة. وتضيق سكة الحديد ويصغر القطار يصغر يصغر. يذوب في الأفق وصفيره يضعف يضعف. جثتان باردتان في قبرين ملتصقين تحت شجرة بلوط عجوز تصفر الرياح بين غصونها المتخشبة. متى سقط المطر على تراب القبرين نبتت الأقاحي والرياحين. اسأليني أنا.
أنا ابن هذه الأرض ذات التربة الحمراء، تشم خياشيمي على بعد ملايين الكيلومترات الأقحوان
والريحان والزعفران وماء الورد ورائحة الجثث الباردة. اسأليني أنا. اسألني عن تراتيل الفقهاء وعويل النساء ونواقيس سقائي القبور. اسأليني عن طعم التين المجفف ووجبات المآتم بلحمها الأزرق وشايها الأسود. اسأليني ...اليد تشابك اليد والطريق الإسفلتي المبتل المتعرج يمتد أمامنا طويلا.نسير. ورطوبة النهر الرصاصي تداعب أوصالك فترتعشين. هذا النهر يتلوى ليحضن هذه المدينة يجود عليها بسمكه ويجرف أكواخها بمائه.
ينتصب جدار السجن البليد على الضفة اليسرى حيث الميناء. يطيش الرصاص في ساحة الإعدام وتترنح الجثث منتفضة كدجاجات أثر الذبح.
عبارات صادقة من مذكرة المواطن عبد الله:
أنا المواطن عبد الله حين أديت ثمن الكراء والماء والكهرباء وخلصت ذمتي من ديون البقال والجزار والخضار، حين فعلت هذا، أتيت على مرتبي الشهري بكامله، فنذرت صوما لله ونظفت أسناني بمعجون صيدلي وجلست أشاهد برامج التلفزيون. وقلت في نفسي. أنا أسعد إنسان على وجه الأرض. أنام مرتاح البال، إذ لو اقتحم اللصوص منزلي ما وجدوا للدرهم أثرا. ورددت في نفسي عاش الفقر، عاش الفقر. ولما ألم بي الجوع اللعين شاهدت برامج التلفزيون. وقلت. لن أشغل نفسي بماديات الدنيا النتنة. الدرهم فإن والأكل فان والجسد فان. أشرب الماء فقط محافظة على الروح التي لا تفنى أقسم بالله العلي العظيم أنى أنا المواطن عبد الله. مواطن عاد جدا لا أمارس السحر أو اليوغا أو أي شيء من هذا القبيل.
وإذا رأيتم أنني لم أمت لحد الآن فإن ذلك....

مجلة آفاق العدد 3 ، السلسلة الجديدة، 1976، ص-ص 101-102.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 http://www.middle-east-online.com/?id=261035













 http://middle-east-online.com/?id=260883

Sample Video Widget