قصة قصيرة : شعوذة في الصيدلية للكاتب المغربي عبده حقي
السيدة البدينة
المتلفعة في بلوزتها البيضاء الناصعة .. تسحب قصاصة ورقية ملفوفة بإحكام عشرلفة ولفة
، من قمطرالمتجرالمحاذي لركبتيها .. تسحبها باحتراس شديد وقرأت في عينيها مايعني
"سري للغاية ".
كنت في تلك اللحظة
مشغولا بدس حفنة الدريهمات المتبقية من الورقة الزرقاء في جيب سروال الدجين الضيق ،
المشوب بمسحة بالية عند الفتحة التي إنتفشت خيوطها من كثرة السحب والدس .. السحب
والدس ، في إقتناء أموريومية بعضها عادي وأغلبها تافه جدا...
وقبل أن آخذ علب
الدواء المحشوة في كيس بلاستيكي صغير، مدموغ بعلامتي الهلال والصليب المتعانقتين ،
وأقذف بجسدي العليل الذي أنهكته الحمى الليلية إلى الشارع الرئيسي ، فاجأني صوت
الصيدلانية قائلة :
مهلا .. مهلا سيدي
، هل لديك وقت .. لاتنصرف قبل أن أحدثك في أمرهام جدا !!
اعترتني دهشة
واستغراب بالغين ، إذ كنت قد سويت كل مابذمتي في الفاتورة وعبأت مطبوع ورقة المرض
بتدقيق مجهري ودمغتها الصيدلانية في كل مواضع الأختام والأرقام والمرفقات البيانية..إلخ
تساءلت في
السرماذا تبقي إذن بعد كل هذه الإجراءات الروتينية التي حفظتها عن ظهرقلب كلما
ترددت على الصيدلية في أول كل شهر..؟؟ ورأيت السيدة تفتح بتوأدة وحرص شديدين
القصاصة الملفوفة في عشرلفات حتى لايقع ما بأحشائها على الأرض وقالت وهي تتطلع إلي
باستغراب :
ـــ بالله عليك
سيدي .. أنت كاتب ومثقف معروف .. يعني أشوف صورتك في الجورنال مرة مرة .. أخبرني عما
يكون هذا الشيء الغريب والغامض الملفوف في حشوة هذه القصاصة .. رجاءا أسعفني ..
أسعفني قبل أن تنصرف .. فقد تاهت بي الحيرة ودوختني سبل التفكير؟
وانحنيت مطأطئا برأسي
قليلا وطفقت أتفحص ذلك الشئ الغريب والغامض المدسوس بين طيات القصاصة التي تشبه
تميمة .. بحلقت وحملقت وأمعنت النظر كثيرا حتى جحظت عيناي لعلني أتبين مابداخلها ..
هناك شيء ولاشئ في نفس الآن .. لم أفهم .. تملكتني حيرة عظمى مابعدها حيرة .. وصوت
الصيدلانية البدينة مايزال يتردد في مسمعي : بالله عليك قل لي ماهوهذا الشئ
المدسوس هنا ؟؟
أخيرا وبعد أن
تعبت حدقتاي من فرط التحديق حاولت أن أجمع أشلاء ذلك الشئ الغريب والغامض دون أن
أجرؤ على لمسه ببنان سبابتي أوحتى أن أشمه مخافة أن تشفطه أنفاس خياشيمي التي أوستعها
الحمى والزكام الحاد ثم أسقط في نوبة عطسات لاتنتهي ...
طفقت أفكك ثم أجمع
تلك الأشلاء بنظراتي مرات ومرات علني أضفرفي النهاية بتحديد كنه الشيء وشكله ... وظهر
لي أخيرا وبعد عناء تفكيروتحديق تارة في الشيء الغامض وتارة في وجه الصيدلانية وأنا
أطرح عشرات الفرضيات أنه لم يكن في أحشاء هذه القصاصة اللغزسوى أشلاء حشرة متيبسة
ومتقاعدة في الموت منذ زمن بعيد .. ساقان متخشبتان وجناح مقصوف ورأس مبسطح ، مدعوس
من دون شعيرتيه القائمتين اللتين يتحسس برادارها مخاطرالأحذية المتربصة ...
قلت للصيدلانية
وعلامات الإستغراب ترتسم على قسمات وجهي :
ـــ هذه أشلاء حشرة
لربما صرصارأوجعل أويعسوب .. لست أدري وليس هناك من عيب إن كانت بصيدليتكم صراصير،
فالحشرات توجد في كل مكان حتى في المطاعم الفاخرة هناك بجواركم أوفي الفندق ذي خمس
نجوم من فوقكم ..إلخ
لملمت الصيدلانية
القصاصة من جديد على طياتها السابقة بعناية ووضعتها جانبا وقالت وهي تنفث زفرة
قوية من صدرها العريض :
الحمد لله ..
الحمد لله .. ظهرالحق وزهق الباطل ..
قلت لها في إنبهار:
أي حق ظهروأي باطل زهق في أشلاء صرصارمسحوق ومات في قبرهذه القصاصة منذ زمن بعيد؟
إسترخت الصيدلانية
على الكرسي الجلدي الأسود العالي ثم شبكت راحتيها خلف رأسها وقالت :
ـــ حمدا لله .. أعتبرك
شاهدا وأي شاهد مقتدر..
قلت : أوضحي سيدتي
لم أفهم ماتعنينه؟
القصة ومافيها أن
زميلتي تلك ـــ وأومأت لي في تلك اللحظة برأسها وبغمزة من عينها اليسرى إلى
زميلتها التي تجلس في الجانب الآيسر قرب السلم المتحرك ـــ زميلتي تلك .. المسمومة
.. النحيلة مثل جرادة القحط التي تعتصرغيظا وحسدا من حظوتي في الصيدلية قد إدعت أن
هذه القصاصة هي طلسم سحري نصبته كمينا لها بين أغراضها حتى أتمكن من السيطرة على
عواطف المديروأضفرمنه ب"القبول" والمفاضلة والمكانة العالية .. هل يعقل
أن أقترف مثل هذا الدجل .. ثم هل أنا في حاجة يالسي عبده إلى مثل هذه الشعوذة لأسيطرعلى
قلب المدير؟ .. ألاترى هذه الجرادة أنني أجمل منها حسنا وقدا ووسامة ولست في حاجة
إلى تسخير قربان حشرة بريئة وبئيسة للضفر بقلوب المديروزبناء الصيدلية ..؟
وما إن أنهت سرد حكايتها
، حتى شعرت بدوارثم زلزال يميد الأرض من تحت قدماي وشككت في وجودي إن كنت في تلك
اللحظة داخل صيدلية في قلب المدينة الجديدة ال"نيو تاون"
أم في حانوت مشعوذ
من أسواق القرون الظلامية ؟
ودعت الصيدلانية
.. كنت أمشي في الشارع وأنا أتطلع إلى العمارات الشاهقة والمتاجرالعصرية وسيارات
الكات كات وأتسمع إلى اللغو الدارجي المشوب بلغة فرنسية هجينة وفي ذهني تقرع أجراس
فكرة ظلت تشغلني طيلة اليوم كم من التمائم والتعويذات والطلاسم مدسوسة في أذهان
هؤلاء العابرين والعابرات وفي زاويا ومخابئ وتحت عتبات هذه العمارات الشاهقة ؟؟
1 التعليقات:
قصة قصيرة ممتعة
شكرا
إرسال تعليق