السبت، 25 أكتوبر 2014

قصة : النـافـذة : أمـينة شـرادي

قصة : النـافـذة : أمـينة  شـرادي
خرجت من البيت مسرعة لا تلوي على شيء. كانت تحمل حقيبتها السوداء التي لا تفارقها كظلها. أخذت تمشي بسرعة فائقة في انتظار أن تجد سيارة أجرة. اضطرت في الأخير أن تكمل المشي على قدميها. لما اقتربت من المكان الموعود، كان هناك واقفا بقامته الرفيعة، يدفع رأسه بين الفينة و الأخرى من بين فتحة صغيرة للنافدة الرئيسية بالبيت. ولجت الشارع بخطى واثقة و مدللة كنجمة من نجوم السينما. رمقته بطرف عين و هي تعلم أنه موجود قرب النافذة ينتظرها. يبتسم وينتظر. ما إن هلت بقامتها الهيفاء، حتى رفعت عينيها نحو النافذة لتلتقيا عينيهما معا و يبتسمان معا في نفس الآن. اشتعلت فرحا و راح تعب رجليها و ضيق تنفسها. لم تشعر إلا وهي بين أحضانه من خلف الباب الذي يتركه مواربا حتى لا تنتظر مرة أخرى. عناق حار ممزوج بلذة اللقاء. هي هيفاء و اسمها هيفاء، تعيش حالة حب غير طبيعية منذ جلست إلى جانبه في إحدى الأمسيات الأدبية. حيث وصلت متأخرة، و كان هو هناك من المدعوين لإلقاء نص من نصوصه الشعرية. رمقها تلج القاعة خجولة من تأخرها و تبحث في صمت و اضطراب عن مكان. قام بسرعة خاطفة، و طلب منها أن تجلس مكانه لأنه بعد لحظات سيقوم إلى المنصة. كان بعينيه بريق ساحر ممزوج بابتسامة متطرفة و جذابة. لم تمانع، رحبت بالفكرة و جلست تلتقط أنفاسها الهاربة من صدرها محاولة التركيز. هيفاء من عشاق الأدب والفن. كلما سنحت لها الفرصة، تخرج من دوامة الوظيفة وتحيي روحها بسماع نصوص نثرية أو شعرية أو التجول بين لوحات فنية.
كان بعينيه لهفة و شوق، عاتبها على الـتأخير و هو يهمس لها:
-          -منذ مدة و أنا لصيق بالنافذة، كأنني أنتظر عدوا غاشما.
ضحكت بصوت عال و قالت له بمرح:
-أحب أن أراك تنتظرني.
انتفض و قال بصوت قلق:
-معنى كلامك هذا، أنك تتعمدين ذلك.
حضنته بقوة ونامت على صدره ثم همست:
-أحبك يا أحمق .
عندما كان يلقي قصيدته، لم تفارق عينيه مكانها كأنه كتبها لها دون أن يدري و جاء القدر ليلعب لعبته.
صدح بصوته عاليا، يخرج الحروف و الكلمات متناغمة كأنها سيمفونية، تتطاير في فضاء القاعة وتحدث صدى يخرج المكان من وحشته و صمته. صفقت الأيادي دون توقف و هو لم ير سواها. صفقت له و هنأته على البراعة في الأداء و الإلقاء. قامت و همت بالانصراف، طلب منها موعدا للقاء. لم ترفض، كان بداخلها إحساس مبهم جعل روحها تهيم في أرض البراري وتقبل دعوته دون تردد.
انهزم أمام إحساسها الجارف و الصادق. اختفى برهة من الزمن و عاد يحمل بين يديه قهوة و بعض
الحلوى. حل الظلام و ظل للحديث بقية. هو يحب دائما أن يرافقها حتى يطمئن على وصولها إلى بيتها، لا تعانده و تستسلم له بهدوء و حب. تختفي بين أزقة صغيرة و ضيقة و يعود وحيدا على أمل لقاء آخر. توالت الأيام تتسابق مع مواعيدهما. ما إن تخطو أولى خطواتها داخل الشارع المؤدي إلى البيت، حتى تنفتح النافذة ببطء و انتظار، تشعر بوجوده و تغني للحظة الآتية التي ستجمعها به في خلوة بعيدة عن الأعين. يومها قبلت دعوته و فرحت باللقاء به. عاشت معه لحظات إبداعاته و كانت جد مسرورة بلحظة الحظ العابرة التي رمت بها إلى تلك القاعة الأدبية. قال لها و هو يعيش حالة انتشاء خاصة:
-حضورك المفاجئ إلى القاعة، كان بالنسبة إلي كالشعلة التي أنارت قلبي وعقلي.
اكتسى الخجل وجنتيها و ابتسمت بثقة و قالت:
-غريب ذلك اليوم، لقد حصلت على الدعوة من أحد الأصدقاء و كنت جد مترددة في الحضور.
قال لها و هو ينظر إليها بكل حب:
-أحيانا، القدر يكون بجانبنا و نحن عنه غافلون. أحسنت لما قهرت ترددك، لأنني كنت في انتظارك.
نامت على صدره و ذابا في عناق حتى الحلول.توحدت اللحظة بالروح و ذاب الجسد في الجسد و اختبآ بين ثنايا الزمن هروبا من الإيقاع السريع الذي يجرف معه كل الأشياء الجميلة.
اختفى الزمن من أجندتهما، تجمدت خطوات الأجسام المرتمية على الأرصفة، لم يعد يوجد سواهما. توالت اللقاءات تلو اللقاءات. و في يوم من الأيام العادية، هاتفها و طلب منها أن يلتقيا في المقهى القريب من القاعة التي شهدت على ولادة حبهما. أعادت الهاتف إلى مكانه و كلها شرود. "ماذا حصل؟" همست إلى روحها المضطربة. كيف يلغي لقاء الروح و الجسد الذي تواعدا عليه منذ مدة؟ أخذت أذرع الغرفة ذهابا و إيابا. تائهة و حائرة و غير مطمئنة. تمنت لو طارت إليه و مسحت بيديها على رأسه ونامت على صدره واختفت بين ضلوعه. هي هكذا، شديدة الإحساس و الاضطراب. لقد غير المكان والزمان. ماذا حصل؟ هربت من أسئلتها المجنونة و القاتلة و راحت تتفحص كتابا دون تركيز على أمل أن يرحمها الزمن وتتحرك عقارب الساعة بسرعة برق كما تنحى لها هو يومها على كرسيه بسرعة برق. أبهرها ذلك السلوك. جلست تراقبه كأنها تعرفه منذ زمن. قالت له دون أن يسمعها بأنها أحبته دون مقدمات. تردد كثيرا قبل أن يخبرها بسفره المفاجئ إلى الخارج. ظلت سابحة بعينين كئيبتين و غامضتين تحاولان الفهم. كرر كلامه و أضاف بأنه توصل بدعوة من نادي يحتفي بالأدباء و هي فرصة له للتواصل و الشهرة. ابتسمت بشكل غير إرادي. هنأته رغم الحزن الذي يعصر أوصالها. مرت الأيام متشابهة و ثقيلة، سكن الحزن حياتها. لم تعد ترغب في عمل أي شيء. شلت حركتها. لم تدر بأنها تحبه كل هذا الحب. لم يعد لها ليل أو نهار. تمضي وقتها بين جدران غرفتها باحثة عن الزمن الذي كان هو جزءا منه. وأحيانا، تهرب من وحدتها القاتلة عند إحدى صديقاتها من أجل النسيان و مهادنة الوقت. ما إن تختلي بنفسها حتى تستوطنها كآبة كل المهمشين على الأرض و تتوسد وسادتها الخالية. لم يتصل بها بعد. أعذرته لكثرة مشاغله. حاولت التمرد على نفسها الحزينة و اللعب معها حتى تخرج من حالة الانهيار الذي تعيشه. فكرت أن تمرق من جانب النافذة حتى تستنشق ذكريات عزيزة عليها تحيي روحها الجريحة. وصلت إلى الشارع الذي تحبه لأنه كان دائما هناك خلف النافذة ينتظرها. وعبر هذا الشارع، كانت روحها ترقص فرحا بقرب موعد اللقاء مع الحبيب. أطلت بقامتها الهيفاء و بدا قلبها بالخفقان كأنه موجود. فجأة، كاد أن يغمى عليها لما رأت النافذة مفتوحة وبداخل الغرفة حركة. هاجمتها الأسئلة من كل جانب. غير معقول أن يكون هو؟ انه مسافر؟ أيكون شخص آخر؟ ارتاحت إلى هذا الخاطر الجميل وصدقته."ممكن" همست إلى روحها المضطربة.
عادت أدراجها و القلق يسكنها. حاولت أن تنشغل بأي شيء حتى لا تستسلم للأفكار السيئة."انه يحبني.." "انه مثقف..و المثقف ليس ككل الرجال" أفكار تروح وأخرى تجيء طيلة الليل. ما إن هل الصباح ورمت الشمس خيوطها اللامعة على المدينة النائمة كما يرمي الصياد شبكته في البحر، حتى غادرت البيت و كلها أمل أن يكون ما رأته بالأمس مجرد كابوس هاجمها ليلا. مشت كثيرا و هامت مع روحها كثيرا. كانت تشغل نفسها المتمردة بذكريات الأمس القريب الحبلى بالهمسات و اللحظات الجميلة. لما اقتربت من النافذة، رفعت عينيها.. صرخت حتى ابتلعت كل الضجيج الذي يسكن الشارع. عادت وتمهلت ربما يكون شخص آخر. انتظرت كمن حكم بالإعدام و ينتظر يوم التنفيذ. فكان هناك، اشرأب برأسه إلى الخارج كأنه ينتظر أحدا ثم توارى إلى الخلف حتى توحد مع ظلام الغرفة.
 أمــــــــــــينة  شـــــــــــــرادي

 


0 التعليقات:

إرسال تعليق

 http://www.middle-east-online.com/?id=261035













 http://middle-east-online.com/?id=260883

Sample Video Widget