القصة كمادة
فكرية:نبيل
عودة
*القصة
لم تعد سردا للتسلية بل علما قصصيا يتعلق بالقدرة على اختراق عقل الإنسان ودفعه
للاندماج بالنص، لغة وفكرا* هذا اللون المتمثل بطرح فكرة فلسفية ،
كجوهر للقصة، يخاطب قارئاً من نوع جديد، بمستوى ثقافي ومعرفي ما فوق المتوسط
*****
نشرتُ في السنوات الأخيرة عشرات
القصص القصيرة... عدا بعض القصص القصيرة
جدا والتي نشرتها كنوع من اثبات عقم تحويل هذا اللون الى جنس أدبي وان القصة القصيرة هي قصة قصيرة بغض النظر عن
المساحة التي تحتلها على الورق.
لاحظت ان معظم ما قرأته من قصص
قصيرة جدا، مجرد فذلكات بلا حس لغوي او
قصصي وبالطبع هناك نصوص جميلة ولكنها
قليلة جدا..
الملاحظات النقدية التي
تلقيتها، من مختلف المثقفين، فتحت امامي آفاقا لرؤية جديدة لمضمون القصة القصيرة، اجد
نفسي مدفوعا لقول ما كنت خلال الأشهر الماضية أتجاهل خوضه مباشرة، ترددا، بسبب
تفضيلي التمهل لفهم أفضل لما بدأ يتشكل في ذهني من مفاهيم وتجارب وسعت حدود ادراكي
لهذا الجنس الأدبي (القصة القصيرة) التي ظننت في فترة ما ان جهدي في صياغتها يذهب
سدى، وان الساحة باتت ملكا لكتاب الرواية.. فكتبت ثلاث روايات ومسرحية، لكني على
قناعة ان قراء أعمالي الروائية من القلة، هذه ظاهرة في كل نتاجنا الثقافي، رغم بعض
الضجيج الكاذب الذي نشهده في ندوات معينة، الا انها تكاد تخلو من النقد أوالقراءة
الجادة لما ينشر.
ليعذرني زملائي الأدباء على
صراحتي الفظة، بان ما نشر حول اعمال روائية او أجناس أدبية أخرى، لا يمكن تصنيف
الا أقله كقراءة جادة وأكاد لا ألمس النقد
الثقافي في ما ينشر عن الندوات او ما ينشر من نقد.. لكنه موضوع آخر...
في هذه الأجواء المأزومة
ثقافيا، تختلف المعايير. كانت عودتي لهذا الانتاج الواسع للقصة القصيرة تعبيرا عن
رؤية فلسفية جديدة لهذا الفن القصصي.
بدأت تتشكل مع عودتي بشكل واسع
للقراءات الفلسفية والفكرية، مبتعدا بعض الشيء عن الكتابة السياسية، فامسكتني فكرة
غريبة ان أدمج بين الفلسفة والفكر والقصة القصيرة، بأن أحاول التعبير عن مناهج
فلسفية بقصص تدمج بين الفكر الجاد واللعبة
الإيهامية التي تميز فن القص.
محاولاتي الأولى كانت نصوصا فجة لم أنشرها، فيما
بعد تدفقت معي النصوص، وجدت نفسي أبحث عن طرائف تتماثل مع الفكرة الفلسفية
المطروحة باطار قصصي لأسهل التعبير عن رؤيتي القصصية والفكرية وتخفيفا من تركيبة
الجانب الفلسفي الذي يخاطب العقل ولا يخاطب الأحاسيس كما تعودنا في السرد الأدبي التقليدي
مثلا.. بل واستعملت بعض الطرائف في مقالات فكرية وسياسية ايضا، وجدت ان الطرفة
تعطي خلفية لفهم جوهر الموضوع المطروح واحيانا أفضل من آلاف الكلمات.
كنت على قناعة ان مثل هذا النهج الجدي، بالنسبة
لي على الأقل... قادر على تشيكل اتجاه ثقافي فلسفي أرقى من مجرد حكايات مسلية
هادفة او غير هادفة..
بعض قراء أعمالي الجديدة ومنهم كتاب قصة من
العالم العربي، لاحظوا ان قصصي الفلسفية (وهو
اللون الذي طورته في السنوات الأخيرة) تدمج بين المقال الفكري وفن القصة، بعضهم
بالغ بالقول ان الكاتب يبرز كفيلسوف أكثر من قصصي، بعضهم تحمس بشكل مبالغ للجانب القصصي الفلسفي...
لم أشأ ان أطلب تفسيرهم لفن
السرد ومدى قدرة الكاتب (انا في هذه الحالة) على جعل السرد مشوقا كما في أي نص
قصصي ناجح، التساؤل هل طرح قضايا الإنسان
الفكرية والفلسفية الجوهرية، الأمر الذي يقتضي أن يكون ذهن القارئ مفتوحا وأن يكون
ذا يقظة فكرية كاملة مما لا يتوفر لدى
قارئ نصف نائم، كما تعودنا على قراءة القصص الممتعة المسلية، او مشاهدة التمثيليات
الممتعة، يُخرج النص من صفته القصصية، الى جنس ثقافي آخر.. مقال مثلا؟.. او
"قصة – مقال"؟!
أعرف ان هذا اللون القصصي
المتمثل بطرح فكرة فلسفية او رؤية فلسفية كجوهر للقصة، يخاطب قارئاً من نوع جديد، قارئاً
بمستوى ثقافي ومعرفي ما فوق المتوسط على الأقل، يقرأ القصة بذهن يقظ كما يقرأ الى حد ما... موضوعاً فكرياً، السؤال الذي
يشغلني بدون إجابة كاملة حتى اليوم: هل يختزل ذلك فن القص ام يرقى به الى مستوى
جديد؟
هذا أعادني، بدون حساسيات وبدون
أفكار مسبقة، من منطلق ان الكاتب هو أفضل ناقد لنصوصه، الى مراجعة واسعة للتعقيبات التي احتوت لمحات
نقدية وتقييمات أوسع من مجرد التصفيق الحماسي والمديح او الموقف السلبي.
أقول بثقة اني فوجئت من
الاستقبال الحماسي لقصصي الفلسفية أيضا من القراء، وان ما كنت أظنه طروحات فلسفية
– من الصعب استيعاب ربطها بقضايا جوهرية ومصيرية لمجتمعاتنا، استُقبلت بفهم كامل
وبتعليقات تلمّح الى ما تخاف النفس ان تصرح به علنا.
السلبيون في ملاحظاتهم، تركزوا أولا حول طول
النص.. مبرزين ان مساحة استعدادهم للقراءة الواعية تقترب من الحدود الدنيا. بشكل
غير مباشر عبروا عن واقع القراءة الآخذ بالضيق والاختزال في المجتمعات العربية. بعضهم اتبع ملاحظته حول الطول بأن القصص هي
"شبه مقال شبه قصة". استنتج من ذلك ان ما يشد القراء أكثر هي النصوص
البسيطة، التي لا تحتاج لجهد عقلي وان بعض دوافع القراءة، مع الأسف، هي دوافع
للترويح عن النفس، للتسلية، في انقطاع كامل عن التفكير واكتساب شيء جديد.
المستهجن ان البعض ذهب نحو
استنتاجات دينية، او أُلصقت عنوةً بالدين، وان الفلسفة نتاج لا ضرورة له للمسلمين.
عبأوا صفحات لا تقرأ بمواعظ لا علاقة لها
بالنص وما يطرحة من رؤية تنويرية او نقدية لواقع عربي مترهل ومتخلف في مجالات عديدة
من الحياة.
لا أعرف ما دخل الدين في الدفاع عن التخلف
والانغلاق الحضاري؟!
يمكن القول ان
النهج السائد في أغلبية المجتمعات العربية، نهج فرض حظر متزايد على مساحة المواضيع
المتاحة، قمع حرية التعبير، نفي حق الرأي، رفض التعددية الثقافية الدينية والإثنية،
عدم قبول حق الإختلاف، أطلّت برأسها بقوة وتشنج من بعض الطروحات التي ارادت ان
ترشدني دينيا (بعقلية بدائية) لما هو مسموح وما هو ممنوع (؟؟!!) وهي تفتقر لمقومات
اولية من الوعي...
مثلا سؤلت عن بطل احدى قصصي : هل هو كافر ؟ سألت
الأديب المتسائل : "وما علاقة ذلك بجوهر النص وعناصر القصة؟ هل البطل في
القصة مشروط ان يكون نسخة مقرر فكرها وعقلها
في مجلس فتاوي ، او في الحزب حسب الطريقة الستالينية؟ هل القصة باتت مجرد
خطاب وعظي آخر؟ هل كل الأشخاص الذين نلقاهم في حياتنا اليومية هم نسخة طبق الأصل
لما نعتقده انه الطريق الصحيح والسوي؟ هل مجتمع
من لون واحد وتفكير واحد هو مجتمع
سليم العقل؟". كاتبة انتقدت خروج أرملة الى الشاطئ للبحث عن حب جديد، بحجة
انه لم يمض على موت زوجها أربعين يوما.. وان الدين يقول.. الخ.. الخ.. الخ!!.
مع مثل هذه العقول، يبدو ان كل
كاتب يحتاج الى مُفتٍ ليرشده في ما يجوز ان يكتبه وما لا يجوز..!!.
بالطبع هناك قراء فاجأوني برؤيتهم المتنورة
والأكثر راديكالية مما تجرأت على طرحه، لكنهم لم يجاهروا برأيهم علنا انما عبر
رسائل خاصة، هذا مفهوم وله مبرراته في مجتمعات تضيق فيها مساحة التفكير، تلغي
العقل لحساب النقل وتسود فيها الخرافات والغيبيات وفكر المعاجز الذي لم يقدم غير
التخدير العقلي.
ان فهمي للقصة تجاوز منذ فترة
طويلة مفهوم النص السردي الخفيف المعبر، الكاتب، كما ارى، لم يعد مجرد راو يروى الحكايات في السهرات والمقاهي، او في وسائل
الاعلام المختلفة لتسلية الناس.
هذا الفن يتحول أكثر وأكثر الى
مادة فكرية فلسفية تربوية سياسية اجتماعية ولغوية ثقافية تشمل كل ابواب الحياة،
تميزه روح سردية إدهاشية قصصية ممتعة.. هذا بحد ذاته يطرح إشكالية غير سهلة، تشمل
تطوير فن السرد وعلاقة هذا الفن بطرح قضايا فكر وفلسفة ومجتمع من المستوى الأول...
ودفع القارئ الى أجواء جديدة في فن القص... فيها متعة الحكاية الى جانب متعة الفكر
ومتعة الفكر أجمل وأرقى من متعة الحكاية
او الطرفة العابرة.
حقا هي مشكلة لدى المبدع، لكنها
مشكلة تتعلق أيضا بمستوى الوعي الذي يمتلكه الكاتب والقارئ على حد سواء. مستوى
الإعداد الفكري للأجيال الجديدة، مستوى تطوير العقل المفكر وليس العقل الناقل .. في جميع مستويات التعليم.
انا شخصياً ارى ان فن القص هو
مسالة مهنية صرف.. أي ان وعي الكاتب هو المقرر، الحديث عن لحظة الإبداع، شيطان
الإبداع، دخول الكاتب بجو خاص ومعاناة
الخلق... هي ثرثرة فارغة من المضمون، تخيلات عقيمة. لا يوجد شيء من ذلك. لا أعرف
من طور هذا الوهم الثقافي. حقا هناك الموهبة، تطوير ادوات المبدع اللغوية والفكرية
والسردية او الشعرية.
كنت قرأت مجموعة مقالات في
الشبكة الألكترونية لأصحاب القاب كبيرة، تتحدث عن فن كتابة القصة وشروطها، ترشد
القراء الى كيفية كتابة قصة. مع احترامي لما قدموه من جهد الا ان نصوصهم أضحكتني
وأشعرتني كم هو مبسط وبدائي تفكير اؤلئك
الأساتذة ، بمحاولاتهم جعل كتابة القصة
عملا يتعلق بمعرفة تركيبة القصة، حسب لوائح وبنود وتوجيهات سامية من الألف الى
الياء.
ككاتب ورائي مئات القصص وروايات
ومسرح وكتب نقد، لا أعرف حتى اليوم تركيبة قصصية يمكن ان انهج عليها. لم تشغل فكري
طروحات الأساتذة المبجلين، الذين يكشفون للقراء أسرار كتابة القصة وهم أعجز عن
صياغة جملة قصصية واحدة، من منطلق ان لغة القصة السردية تتميز عن اجناس السرد
الأخرى بتركيبتها اللغوية والأدبية
الدرامية.
شروحاتهم لقواعد التأليف القصصي وشخصيات القصة لا
يمكن ان تكون أكثر من تعريف اكاديمي للقص عموما. اعتقد اننا امام جنس أدبي حان الوقت ليتخذ له
مكانة ابعد من التسلية فقط ، ان ننظر اليه بصفته "علم قصصي"، أجل هو
علم.. يقتضي الموهبة كما في علم الرياضيات مثلا، لكنه علم يتعلق أكثر بحياة الإنسان
بكل تفاصيلها، إسقاطاتها ومؤثراتها. علم يحتاج الى تجربة حياتية واسعة جدا، الأهم انه
علم يتعلق أيضا بالقدرة على اختراق عقل الإنسان ودفعه للاندماج بالنص لغة وفكرا..
بما يتجاوز مساحة متعة القراءة فقط، لأن متعة الفكر والفلسفة أرقى وأكثر تنوعاً
واختراقاً لنفس الإنسان من مجرد نص الحدوثة ومتعتها.
واضح ان القصة لن تكون بحثا، انما
طرح معلومات ومواقف بسرد يختلف عن السرد العلمي... هنا كما ارى هو المجال الذي لا
بد ان يخطو اليه فن السرد القصصي، ليخرج من الحواديث والجو الحكائي البسيط الى
المعاضل الأساسية التي تقف أمام الإنسان العربي أساسا والإنسان العالمي عموما.
هذا الاتجاه بات بارزاً في
العديد من الأعمال الروائية والقصصية العربية، لم يقلل ذلك من روعتها السردية
ودراميتها انما عمّق الى أبعد الحدود
التصاقها بقضايا الإنسان والفكر الإنساني.
هذا النهج يجب تعميقه، ليس لتطوير
الحكايات المسلية، انما لجعل فن القص لا يختلف عن إعلان الثورة الاجتماعية من أجل
القضاء على الفساد وتعميق نهج التنوير.
0 التعليقات:
إرسال تعليق