الأحد، 26 أكتوبر 2014

قصة قصيرة.فقاعات بلورية. إدريس الصغير

قصة قصيرة.فقاعات بلورية. إدريس الصغير
حاول أن يتذكر إن كان قد مر بموقف مثل هذا، غير أن ذاكرته لم تسعفه. لكن هاجسا، كان يلح عليه، في أنه عاش تجربة مماثلة، في زمن ما، خاله بعيدا جدا، موغلا في القدم.
 هل مر به ذلك في حلم، أم أنه عاشه حقيقة، وتملكه الوعي به، كما تتملك الروح الجسد، قبل أن تغادره، تاركة إياه كخشبة مهترئة، ملقاة على رمال شاطئ مهجور؟
لم يكن يمتلك أي يقين. غير أنه كان يعي تماما، بأنه في مقصورة  قطار، من الدرجة الأولى، موصدة الباب، مكيفة الهواء، يقتعد مقعدا وثيرا، بمحاذاة النافذة، وأمامه شخص صارم الملامح، بشاربه الكث، وسحنته الإيطالية « هل للإيطاليين سحنة خاصة؟ » هكذا تخيل الأمر. ليس الرجل إيطاليا، لكن سحنته، كالصقلي، إذن هو ليس إيطاليا، لكن ملامحه كصقلي « هكذا يختار كل المخرجين السينمائيين، أبطالهم من الصقليين، بنفس ذات الملامح. »
الرجل ذو بذلة سوداء، وقميص أبيض، دون ربطة عنق. لم يرد أن يتفرس فيه مليا. ذلك قد لا يروق له. لربما استشاط غضبا، لتبدأ الملاسنات التي قد تنتهي بتبادل اللكمات.
مضى يسترق إليه النظر، موحيا له، بالانشغال، بالبحث في جيوبه، عن شيء افتده. وهكذا كان في كل مرة، يخرج من أحد جيوب سرواله، ومعطفه، منديلا، أو أوراقا نقدية، أو علبة سجائر...
 كان الرجل صارم الملامح، لا يأتي أية حركة، عدا اهتزازات خفيفة، بفعل احتكاك عجلات القطار بالسكة الحديدية، ثم هنالك، ذلك الإيقاع الرتيب، الذي تخلفه في انتظام، يجعل سنة النوم تأخذ، معظم الركاب.
حاول أن يتطلع من النافذة، غير أنه، لم ير سوى ظلام دامس، فأدرك أنه مسافر ليلا، غير أنه لم يأبه لذلك، وسمع صوت صفير القطار يشق سكون الليل البهيم.
الإضاءة كابية صفراء، ليس يدري إن كان القطار، يسير به في قعدته خلفا أو أماما. كان هو والصقلي « هكذا سيسميه » متواجهين. لو كان الوقت نهارا لتبين من النافذة، إن كانت الحقول تتراجع وراء، أم أنه هو الذي يرتمي في أحضانها أماما. لكنه الليل البهيم البارد الغامض، مثل غموض الصقلي. هل هو مسافر عادي !؟ تاجر أغنام، أم مدرس أطفال، أو جندي متقاعد ؟! كانت أظافر يديه مقلمة، بعناية كبيرة. في خنصر كفه اليسرى خاتم زواج من البلاتين، كان يعبث به بين الفينة والأخرى، ثم يتأوه، لذة أو ألما.
لعله في أحلام اليقظة. تكاد تنفلت منه ضحكة، لكنه يكتمها لتظل الابتسامة الباردة، ترتسم على محياه، ثم تنمحي فجأة، لتعاوده الصرامة الثلجية. فكر أن يسأله، هكذا أي سؤال، فقط ليتجاذب معه أطراف الحديث، مثلا، لماذا لم يتوقف هذا القطار، في أية محطة؟ بل لماذا لم يمر أصلا بأية محطة؟ فهو لم يلاحظ أي أضواء أو رصيف أو منتظرين، من النافذة. إنما هو الدجى الأسود الغامض. اكتشف أنه لا يدري وجهته. أعاد البحث في كل جيوبه عن تذكرة السفر، لكنه لم يجد لها أثرا. كيف ركب هذا القطار؟ وكيف ولج هذه المقصورة بالذات. هل هو السابق أم الصقلي، أم هما معا ولجاها في نفس الآن.
لكن. ليسأل نفسه أولا. الى أين هو ذاهب؟ هل هي لحظة الهروب التي ظل يتوق اليها منذ سنوات طوال. لحظة الانعتاق، نحو أفق الحرية الرحيب. هكذا يستعجل، أن يرمي وراءه، تلك التي دمرته، انفجرت كحزام ناسف، أحاط بخصره، طويلا، ثم فتته أشلاء، متناهية في الصغر، تدروها الرياح، في الجهات الأربع. هل يملك أن يعيد بناء شتات ما دمر ؟! هل يملك أن يضحك بعد ؟ أن يعدو، على الشاطئ، ليغوص في موج البحر المالح، ثم أن يستمرئ، اللذة؟ هكذا مطلقا. أية لذة؟
سعل الصقلي، سعلة طويلة، فتناثرت حبيبات اللعاب من فيه، ليسارع بالصاق راحتي كفيه، على شفتيه، ثم جذب منديلا أبيض، مسح به كل وجهه، وجفف يديه، كمن فرغ من التهام أكلة لذيذة.
ثم ران الصمت الرهيب والسكون القاتل، على المكان. مضى الان يغبط الصقلي حظه. الظاهر أن ليس به ضيق. لعله لم يعرف التعاسة مطلقا. لعله متجه لقضاء ليلة ماجنة في فندق فخم. رائحة عطره نفاذة. عطر رجالي غالي الثمن. أو لعله مسؤول كبير، مرسل في مهمة، يتوقف عليها أمر جلل. غير أنه لم يلاحظ بالمقصورة، حقائب أو محافظ، أو أي نوع من الأمتعة. هو نفسه لا يحمل أي متاع. لعله خرج مسرعا، مطلقا ساقيه للريح لا يلوي على شيء، وقد انتعل أول حذاء صادفه، دون أن يكلف نفسه عناء التأخر في حشو قدميه في جوربين. الصقلي لا يكاد يعبأ به. لم يلاحظ ذلك بل لم ينتبه إلى أنه غير حليق الذقن، منفوش الشعر، يلبس قميصه مقلوبا. لم يكتشف ذلك سوى الآن. حين مرت عيناه عفوا على محيط المراة الصغيرة المثبتة، أمامه، بمحاذاة كرسي الصقلي، فلاحظ ياقة القميص مقلوبة. قميص غير مزر، إذ الأزرار، تصطف على صدره وبطنه نحو الداخل. رأى وجهه الشاحب وعينيه المحمرتين. كان شخصا آخر، غير الذي عهده يلبسه في صباه وشبابه هو الآن قاب قوسين أو أدنى، من مغادرة هذا العالم، كان متعبا محبطا لا رغبة له في أي شيء. القطار يزيد من سرعته، يتعالى صفيره الحاد ممطوطا، في فضاء الخلاء الفارغ، يتردد صداه، في المدى البعيد، موحشا رهيبا، كعواء الشياطين في قلعة مهجورة. لم يعد يتذكر أي شيء، ولا يدرك أي شيء. بدأ يشعر بمغص في بطنه. ذلك المغص الذي، ينغص عليه حياته، ومهجته، بينما الصقلي لا يعبأ بشيء، مضى يتجشأ، وفجأة عقد زرعنق قميصه واستخرج من جيب معطفه، ربطة عنق، عقدها بيسر ومهارة فانتظمت في مكانها، وأعطت الصقلي هيبة ووقارا. لايذكر أنه طوق عنقه يوما بربطة أو فراشة الا في مرات نادرة، معدودة على رؤوس أصابع اليدين. كان ذلك في شبابه، أيام السبت بالذات، حين تغيب الشمس، في مدينته الصغيرة، فيستحم، ويرتدي أزهى ثيابه، وييمم شطر المراقص، حيث يرتمي في الحلبة، عابثا بالجسد الغض، على إيقاع موسيقى، مازالت ترن في أذنه لحد الآن.
نظر الصقلي الى ساعة يده - ساعة ذهبية تضفي على اليد رونقا محببا - ثم، جذب قنينة عطر، رش بها وجهه وكفيه، فعبق بشذاها فضاء المقصورة. لعل القطار سيتوقف قريبا. لابد أن الصقلي على علم بكل الأمور، لذلك، وإن كان قد هم بسؤاله، إلا أنه أحجم عن ذلك، وقرر أن ينتظر ما يحدث.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 http://www.middle-east-online.com/?id=261035













 http://middle-east-online.com/?id=260883

Sample Video Widget