الجمعة، 7 مارس 2014

قصة "الحرف" محمد زفزاف

قصة "الحرف" محمد زفزاف
استطاع الحرف أن يتخلص من أيدي حرس القوات المساعدة بسهولة، لأنهمكانوا مشغولين بهدم خيمته على الشاطئ. اختفى خلف كثبان الرمل. ولأنه لم يشكل أيةخطورة، لم يهتموا به. المدينة صغيرة، ويمكن غداً أو بعد غد مشاهدة الحرف وهو يتجولأو منعزلاً في ركن من مقهى يدخن الكيف في تأمل.‏
قالالضابط:‏
-لاتهتموا كثيراً. سوف يأتي ويقدم نفسه إلينا غداً صباحاً أو هذه الليلة. هل نهتمبمخبول؟!‏
قالأحدهم وهو يرفس الباش بحذائه:‏
-أخشى أن يرتكب حماقات أخرى هذا المساء.‏
قال الضابط:‏
-كل ما يهمنا هو أننا نود أن نعرف من أين أتى بهذه الخيمة؟ من أين له الفلوس حتى يشتري مثلها؟‏
كان الحرف يرى قاماتهم في الظلام، وأحياناً يميز وجوه بعضهم عندما تنفضح تحت ضوء البطاريات، وفكر بأنه يستطيع أن يتغلب على اثنين منهم على الأقل لو تشاجر معهما،ولكنهم أكثر من اثنين. أخذ يمسح الزبد عن شفتيه ويلعن في الهواء، ورآهم يتكتلونلحمل الخيمة إلى السيارة.‏
كان الحرف معروفاً من طرف الجميع، ولا شك أن قصته مع حرس القوات المساعدة هذه الليلة،ستنتشر في المدينة الصغيرة. سيعرفها الكل، وتبدأ التكهنات كيف يستطيع الحرف أنينتقم من هؤلاء الحرس. إن حماقاته كثيرة وشاذة، سواء في السجن أو في مستشفى الأمراضالعقلية.‏
وعندما ركب الحرس السيارة قال الضابط:‏
-إنها خيمة غالية الثمن. لا يمكن أن يشتري مثلها حتى الباشا نفسه.‏
-هذا الأحمق المعتوه، لا ندري من أين أتى بها؟‏
كان الناس يعرفون من أين أتى بها، لقد ذهب مع هيبية فرنسية إلى تاغازوت. وكانت تدعيأنها التقت بأميرها. كانت تعتقد حقاً أنه أمير. بلحيته القصيرة وبشرته السمراء.وعندما عاد من تاغازوت، حمل معه هذه الخيمة ومعطف فرو، وهذا المعطف هو الذي كان يرتديه الحرف يومياً، رغم الحرارة الشديدة. وكان يرتدي أيضاً سروالاً مقصوصاً فوق الركبتين، بحيث تبدو ساقاه المشعرتان؛ وقدماه الحافيتان المتصلبتان. كل ذلك مع معطف للفرو مرتفع الثمن، والحرارة شديدة.‏
عندما رأى الحرف السيارة تتحرك، دك الرمل بقدميه وأراد أن يصيح. لكن الصوت أنجس فيحنجرته. ودس يده في جيب معطفه الفرو، وتحسس حزمة من الأوراق النقدية. ومشى نحوالمكان الذي كانت الخيمة منصوبة فيه، وأخذ يذري الرمل كمن يبحث عن شيء. لكنه لميعثر على ذلك الشيء. فجلس وأخذ يمضغ ريقه. وقف ثم جلس مرة أخرى ومد رجليه، وشعربوخز تحت عجيزته، فوقف وتوجه نحو الأضواء القريبة. مر بالقرب من فندق "الجزر". وظهرله مركز الشرطة فاغراً فاه، فانسل إلى زقاق ضيق، فاراً بنفسه منهم. لو ألقوا عليهالقبض لأشبعوه ضرباً ورفساً، وأبقوه أياماً في قبو مظلم يتغير زبائنه باستمرار ألاهو، لقد كانت له تجربة في ذلك المكان المظلم الذي يقضي فيه الزبائن حاجتهم أمامكوقد تدلت أعضاؤهم الجنسية. كان الحرف يقبض على حزمة الأوراق النقدية في جيبه بيدحديدية. وعندما رأى شبح أول إنسان في رأس الزقاق ارتجف ووقف في مكانه متصلباً، لكنهعندما عرف أن الأمر لا يتعلق بواحد منهم، مشى بثقة نحو المكان الذي خطر له تواً.كانت جل الحوانيت قد أغلقت أبوابها تقريباً. والقليل منها ما زالت مفتوحة، ضيقةالأبواب. وقد اصطفت كؤوس اللبن الرائب على جوانبها. مر بثلاثة أشخاص ملتقين فيجلابيبهم، وسمع اسم "الحرف" يتردد على شفاههم، لكنه لم يعر أحدهم اهتماماً. كانوايتحدثون عنه من غير شك. ووجد الحرف نفسه أخيراً أمام باب دار يعرفها جيداً ولكنه لايزورها إلا قليلاً، طرق الباب وهو لا يزال يتحسس حزمة النقود في جيبه. طرق مرة أخرىففتحت له امرأة عجوز على جبهتها وشم عمودي يقسمها إلى نصفين. قالت المرأة:‏
-الحرف، ماذا تريد؟ اذهب فتش عن مكان آخر يليق بك يا خانز.‏
لكنهلم يستمع إليها. بل دفع الباب بكل قوة وعنف.‏
-سأبيت هنا الليلة. لقد أخذوا خيمتي.‏
-من؟البوليس؟ لا شك أنك عملتها يا خانز.‏
اجتازباحة الدار وأصبح وسط الغرفة التي ينبعث منها الضوء. وقالت المرأة بصوت منخفض:‏
-لاترفع صوتك. الجيران فوقك.‏
كانتثلاث نساء ممددات. وأخذ يجيل النظر فيهن ليختار واحدة منهن. وعندما لحقت به المرأةقالت:‏
-أنالا أمزح، أدفع النقود أولاً.‏
أخرجالحرف حزمة النقود وأراها للعجوز، فصرخت في النساء:‏
-ياه!أفقن فالحرف غني هذه الليلة.‏
وأرادت أن تخطف من يده حزمة النقود، غير أنه أعادها إلى جيبه بسرعة.وقال:‏
-أريدتلك.‏
-هيلك، هات النقود. سأعدها لك.‏
-إنهامعدودة.‏
-هاتيا خانز.‏
الخانزة هي أمك.‏
وأعطاها ورقة نقدية فاختطفتها من يده وهي تقول:‏
-هلتكفي هذه يا مخبول؟ للشراب أم للنوم؟‏
دفعلها الحرف ورقة أخرى، إلا أنها أرادت أن تستزيد لكنه رفض. وجلس مجيلاً نظره فيالغرفة، كانت مستطيلة، مطلية بطلاء يقترب من الأصفر الباهت. وعلى الجدران علقت بعضالصور لسيدنا علي والغول، ولحواء وهي تقدم التفاحة لآدم والأفعى بينهما وقد لوتجسدها حول جذع الشجرة، وكانت نافذة وحيدة صغيرة على شكل شبه منحرف قرب الباب، وقداخترقها الضوء حتى انتهى وغاب في ظلام خفيف خارج الغرفة.‏
اقتربت إحدى النساء من الحرف:‏
-منالتي تختار؟ أنا؟‏
-أريدتلك. أنت أكل جسدك الزهري، ما هذه الدمامل على شفتيك؟‏
-أنتأيضاً تفهم هذه الأمور يا أحمق؟!‏
-الحمقاء هي أمك. ابتعدي عني لا أريد خانزة مثلك.‏
فصاحتالمرأة في العجوز:‏
-أميطامو، هل جننت حتى تستقبلي في بيتك مثل هذا المخبول القذر؟‏
وقالتالعجوز:‏
-أقرعوبفلوسه.‏
-يلعنبوها حياة.‏
-اسكتي أنت. إنه لا يريدك ومن حقه ذلك.‏
ودارتالعجوز إلى الحرف وأخذت تلاطفه. بالغت في ملاطفتها له، فانتفخ الحرف مثل ديك يستعدلمعركة حقيقية أو معركة جنسية. وأرادت أن تجعل لملاطفتها ثمناً. فقالت وهي تحركالحرف من كتفيه:‏
-نريدأن نسكر الليلة ونتعشى ونمرح. هات ثمن اللحم والخضر والفواكه والشراب هذه النقودستأخذها القحبة.‏
-إننيلا أملك بنكاً.‏
أدخليده في جيبه وأخرج ورقتين نقديتين، تناولتها العجوز مسرورة وهي تقول:‏
-أنتالآن رجل.‏
وللنساء:‏
-ألمأقل لكن أقرع وبفلوسه.‏
التفتالحرف إلى المرأة التي رغب فيها. اقترب منها ووضع كفه فوق كفها. لكنها أبدت بعضالتمنع. سحبت يدها من تحت يده وهي تقول:‏
-هلتحبني حقاً؟‏
قالالحرف:‏
-أنالم أرك قبل الليلة. كيف أستطيع أن أحبك؟!‏
-هلتحب هيبية إذن؟‏
-نعم.أحب كثيرات.‏
وقالت امرأة أخرى وهي ممددة فوق زريبة مهترئة:‏
-لقدأفسدت الهيبيات القذرات السوق علينا. سأذهب إلى الدار البيضاء لأصبح غسالة. وسأتزوجمن عسكري.‏
-اسكتي يا فرتلانة، لا تعتقدي أنك ستجدين زوجاً بسهولة هناك.الفتيات كثيرات والرجال أصبحت أعينهم في السماء.‏
-كلزرع له كياله.‏
-إنكلست زرعاً. إنك حنظل.‏
-أقفلي فمك يا قحبة.‏
-القحبة هي أنت.‏
كانت العجوز قد غادرت الغرفة وقد التفت داخل حايك أبيض متسخ. أما الحرف فقد حاول أن يقفل فم المرأة التي بجانبه حتى لا تستمر في الشتم. ولكنها أبعدت شفتيها عن كفه، وقالت:‏
-قماقض حاجتك: وابتعد عني أيها المخبول.‏
وأراد الحرف أن يرد عليها، لكن طرقات قوية على الباب أسكتتهم جميعاً. وتساءلت الأعين عمن يكون الطارق. وأخذت النساء في الاهتمام بأنفسهن. ربما يكون زبوناً جديداً، لكن الحرف وقف فجأة، وخرج إلى باحة الدار، وأخذ يجيل نظراته في كل مكان، استمرت الطرقات بخفة هذه المرة، فخرجت إحدى النساء الثلاث. وقبل أن تحاول فتح الباب، وضعت أذنها عليه لتستمع إلى الحديث الدائر في الخارج. كان من في الخارج قد أحس بأن شخصاً ما وراء الباب، فصرخ بصوت مرتفع:‏
-بوليس. افتحي يا قحبة!‏
صرخت المرأة صرخة مكتومة: "ناري!".‏
إذ ذاك أخذ الحرف يدور على نفسه. وتوجه بسرعة إلى صندوق كان موضوعاً قرب الحائط القصير. ثم قفز إلى الخارج بعيداً عن سيارة الشرطة. وسمع أصواتاً خلفه وهو يركض: "إنه الحرف. قف يا بغل! يا أحمق يا مخبول". ولم يكن يلتقط من هذه الكلمات إلا بعض الحروف. كان يركض ويركض، ولم يكن أحد يركض خلفه. وقال الضابط:‏
-لاتهتموا بذاك المعتوه. سنقبض عليه الليلة أو غداً صباحاً.‏
ثم دفعوا النساء بقوة داخل السيارة، إلى جانب نساء أخريات ورجال آخرين.‏


0 التعليقات:

إرسال تعليق

 http://www.middle-east-online.com/?id=261035













 http://middle-east-online.com/?id=260883

Sample Video Widget