الجمعة، 1 أكتوبر 2010

أحلام الشاهد السبعة : مصطفى المسناوي



الشاهد الوحيد
لحظة خرجت الأسماك والحيتان ترعى في الحقول، وهربت الجبال والناس والشوارع والكواكب نحو مخابئ الإغارات، كنت أنا مقعدا في مكاني المعهود، أمام ساعة البرج التي التوى عقربها الصدئ الوحيد على نفسه... ارتجفت سبابة يمناي وغضروفا أذني، وكدت أهتف بهم أن يبحثوا عن رجلي وأن يحملوني معهم، لولا أن أصمتني إدراكي المباغت بأن ارتجافي ليس لخوف من الدهس المرتقب والميتة التي لم يحلم بها بشر، وإنما لإنني، وبدون رغبة مني أو اختيار، سأصبح الشاهد الوحيد
ليندا وود
تعرفت على ليندا وود بواسطة المراسلة. بعثت إلى "مصلحة الشباب الدولية" بثلاثة مقتطعات بريدية وبطلب التعرف على سويدية شقراء بعيون خضر من مواليد 1954. وانتظرت أسبوعين قبل أن يجيئني مقتطع الإسم: ليندا وود، من مواليد 1945، أمريكية شقراء بعيون زرق. خاب أمل الجن الذي يسكنني رغم ورقة الاعتذار عن عدم وجود سويدية بالمقاس المطلوب وشرع في الاحتجاج، إلا أنني طمأنته قائلا إن المرء لايستطيع الفرار أمام المكتوب، وتناولت قلما وورقة بيضاء وحبّرت رسالة عادية: "عزيزتي ليندا، من دواعي سروري الكبير وفرحي اللامتناهي أن أراسل شخصا من تلك البلاد العظيمة التي تقف الآن على قمة العالم.. هوايتي: جمع الصور التذكارية والطوابع البريدية وحمّالات المفاتيح وأعقاب السجائر، أتمنى أن تدوم صداقتنا إلى الأبد. لك بإخلاص...). لم يتأخر الرد وجاءني بعد شهرين. قالت إنها سعيدة لمراسلتي، بل هي تعتبر ذلك واجبا إنسانيا. قالت إنها تحب الحيوانات الداجنة وهي تمتلك الآن أرنبا أبيض وسلحفاة بالغة اللطف. ثم سألتني هل أربي حيوانات أنا أيضا؟ وطلبت مني صورتي
بعثت إليها بصورة والدي الذي قتله الألمان في الحرب العالمية الثانية وهو يدافع عن الأراضي الفرنسية؛ ونظرت إلى أبناء أخوتي، وهم يتقافزون في برك الأوحال حولي وكتبت أنني أربي جُعَلاً وذبابة خضراء، وأن أكبر شيء أحبه في هذه الدنيا ـ بعد المراسلة طبعا ـ هو النظر إلى الجعل وهو يدحرج كرته إلى الخلف. وبعد شهر وعشرة أيام أجابتني فقالت إنني أبدو جميلا في الصورة وأشبه الأمريكيين تماما، إلا أنه لايبدو منها ما إذا كنت أحسن ترقيص الأفاعي أم لا، وقالت إنها تسكن منزلا بالضواحي - لأن المدن عندهم امتلأت بأدخنة المصانع وعوادم السيارات - له حديقة خضراء ومسبح وملعب تنس، ضمنت المظروف صورة لها وهي تقف به في رداء التنس الأبيض ممسكة بالمضرب في حالة تأهب.

كانت الصورة ملونة وكان وجهها بدون ملامح وبشرتها تشبه لحم الخنزير المسلوق، ومع ذلك قلت لها أنت رائعة الجمال، وإن وجهها ذكرني بوجه ممثلة عالمية عظيمة نسيت اسمها. وقلت أيضا إنني لا أحسن ترقيص الأفاعي ولا شرب الماء المغلي وأكل الزجاج والصبّار، إلا أنني أحسن ركوب الدراجة بالمقلوب وإيقاف الكرسي على رجل واحدة وتكوين قنبلة صغيرة من عودي ثقاب فقط، وغير ذلك من الأشياء المسلية والمفرحة، وقلت لها أيضا إن مسألة السكن هنا لاتهمنا البتة ـ مثلما تهمهم ـ فالجو هنا رائق والشمس ساطعة أبدأ، ويكفي أن يفترش المرء المساحة التي يشاء من الأرض الخضراء النضرة أو الصحراء الذهبية الشاسعة، ويلتحف بالمنطقة التي يشاء من السماء اللازوردية الزرقاء لكي يعيش في سعادة مطلقة
وقد فرحت ليندا جدا جدا، وجاءني جوابها بعد أسبوعين بالضبط، متضمنا قصيدة شعرية كتبتها قبيل توصلها برسالتي مباشرة، وكدليل على فرحها، وحبها لي، قالت إنها تبعث بها إلي قبل إطلاع أي من صديقاتها وأصدقائها الأقربين عليها. وهي تسألني رأيي فيها، وخاصة مدخلها الذي يقول
هل فكرت يوما فيم سيحصل
لو أننا فقدنا، فجأة، السماء
الطيور ستضحي حزينة حزينة
لأنه لن يعود لها مكان تحلق فيه
وقد أحسست فعلا بنوع من الاطمئنان الداخلي، لأن طيور "الزوش" المسكينة التائهة والمشردة وجدت أخيرا قلبا من أقصى العالم يهتم بمصيرها فيما لو فقدت السماء وزرقتها. وأجبت متحمسا أنها روعة، مضيفا أن العصافير سوف لن تكون وحدها الحزينة لهذا الفقد، بل إننا نحن أيضا سنحزن لافتقادنا الرحابة التي ترتاح فيها أعيننا وقلوبنا بعد طفحها بأدران هذا العالم السفلي الفاني
وقد شكرتني جدا على عواطفي، وعبرت عن استغرابها وفرحتها الشديدين إذ وجدت شخصا بعيدا عن بلدها يفهم الشعر الرقيق الذي يعبر عن دقائق خلجات النفوس، في حين أن أصدقاءها وصديقاتها الأقربين سخروا منها واتهموها بأنها تعيش في عالم مضى وانقضى هو اليوم أقرب ما يكون إلى عالم الأحلام. ومن شدة استغرابها وفرحتها أخبرتني أنها مشتاقة لزيارتي بل إنها ستقوم بزيارتي فعلا لكي نتراءى ونتناظر وتتناقش عن قرب، وأحسست بالجن الأزرق داخلي ينتعش فرحبت بها في رسالتي، وبعد أسبوع أخبرتني بموعد رحيلها ووصولها. وفي الوقت المحدد تماما كنت في انتظارها بالمطار
الشيخ
أنا الآن شيخ خرب مثقوب كحذاء قديم. ذكرياتي التافهة (كل ما تبقى لي من أيامي الماضية) أحملها معي مثلما يحمل المتسول أكياس الخبز اليابس على ظهره، وأمد يدي مرة مرة فأخرج لكم منها قطعة: عفنة خضراء أو بيضاء ترتعش باللهب. أعرضها على عيونكم العمشاء فأسمع نهنهات ضحككم المكتوم أو أرى نظراتكم المشفقة. أود أن أهمس لكم بكل هدوء أنني لست مهرجا ولا ندّابا، بأنني كنت أنا أيضا طفلا مرحا، وكنت مصمما على عيش حياتي بقوة وفرح: واللحظة إذ أرفع رأسي نحو دكنة السحب أحسني صرخة انفجرت وستسقط في مكانها، ستتكسر على الأفريز وسط العمارات ولن ينتبه أحد لهذا الشيخ الذي انتهى ولم يعد صالحا للوعظ ولا للشهادة، لم أعد صالحا لحب ولا لفرح، ولم أعد أرغب في غير ميتة هادئة فوق تل أخضر، يتخلل مسامي نسغ التربة، وأصيخ السمع للكون المحتضر وهو ينوح حتى النهاية
الشيخ ـ ليندا وود
تعرفت على ليندا وود بواسطة المراسلة. شعرها أشقر وعيناها زرقاوان، تحب الأرانب والسلاحف وتكتب الشعر، وأتت يوما لزيارتي فكنت بانتظارها في المطار
نزلت الطائرة، نزل المسافرون ونزلت ليندا وود. نظرت إلى وجهها فسمعت شيئا يتكسر داخلي. بحثت هي في الأوجه المنتظرة ولم تعرفني (لست أبي ولا أشبه صورته). سمعت شيئا ينكسر داخلي مثلما تنكسر القناني التي يقذف بها السكارى أواخر الليل نحو زوايا الأزقة المظلمة فتنتفض القطط وتموء في ألم وهي تجري مرتعبة. سمعت ذلك فضحكت. نظرت ليندا إلي، نظر المسافرون ونظرت حيطان المطار فرفت صوتي بالقهقهة. ضربت كفا بكف، نفضت الغبار عن جمجمتي وثيابي وذقني النابتة: تعرفت على ليندا وود بواسطة مصلحة الشباب الدولية. ليندا امرأة عجوز ولدت سنة 1945، وليندا تملك خمس قارات وسبعة أجواء. وأنا الآن أقهقه واتجه نحو باب الخروج الذي أخذ يكبر ببطء وببطء
أحلام الشاهد السبعة
في الليلة الأولى، رأيت العشب يلتهمه اللهب
رأيت في الليلة الثانية العصافير قتلى مفردة الأجنحة فوق التربة السوداء
رأيت في الليلة الثالثة الأكواخ تنهدم والقناطر محطمة
رأيت في الليلة الرابعة الأغنيات تصير رمادا ورعبا
رأيت في الليلة الخامسة هياكل العظام والمحاجر الفارغة.
رأيت في الليلة السادسة الصلصال والأحجار الصخرية، رأيت الصقور تحوم عارية الأعناق، وسمعت نعيب البوم ونعيق الغربان.

وفي الليلة السابعة لم أر شيئا ففتحت عيني، وأمام حدقتي المشرعتين رأيت الدم ـ وبدون رغبة مني أو اختيار ـ يتدفق نحوي من كل اتجاه
الدارالبيضاء - يناير 1976
من آخر مجموعة قصصية للكاتب و الصادرة عن وزارة الثقافة و تحمل نفس العنوان.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 http://www.middle-east-online.com/?id=261035













 http://middle-east-online.com/?id=260883

Sample Video Widget