وقت الأصيل سار المواطن عبد الله الأروح و ئيدا بإعياء، و الجراب الجلدي الصغير تحت إبطه الأيمن
تجاوز علامات المرور و الشرطة و قاعات السينما و مواقف الحافلات، حتى أصبح أمام خلاء و أزبال و أكواخ خشبية و قصديرية وطيئة. اقتعد التراب الأحمر، و وضع قبعته الوسخة فوق الجراب أيضا. من بعيد يبدو سور المقبرة المهدوم، يتبرز عنده أطفال وسخون، ثم ينطون ليتبولوا فوق القبور، و يعالجوا بأيديهم شواهدها الخشبية، حتى تنكسر و هم يتضاحكون. قال، لا أريد أبدا أن يتبرز أحد فوق قبري حين أموت و أدفن، و أن يضاجع أحد معتوهة فوقي و أنا مسجى، أسمع الآهات و الشهقات الرعناء في رقدتي الأبدية. أعيش ذليلا في حياتي، و لا أنجو من ذلك حتى بعد مماتي؟ أي ذنب اقترفتَه يا عبد الله الأروح، يا نحس زمانه؟
في البداية رأوا قدمي المعقوفتين، فكنوني الأروح
قلنا لا بأس. هذا أحسن من أن يسموني بكنية نتنة تلبسني طول عمري، كما يلبس جلدي المشعر، و عظامي المنخورة. بعد ذلك بعت الجرائد في المقاهي و مسحت الأحذية و رقصت و غنيت في الحلقات و المواسم لكنني لم أدرك لحد الآن إن كانت ترشح به السماء أو تنشق عنه الأرض أو أقيؤه من فمي. كل ما أدركه أني أطالع فجأة بسحنته المتجهمة تحت القبعة السوداء و فوق اللباس الكاكي الذي يتوسطه حزام غليظ يحمل هراوة في الجهة اليسرى و جراب مسدس في الجهة اليمنى. ثم أرى الحذائين الغليظين يرفسان بطني و وجهي و يقذفان مؤخرتي. يقودني رافعا صوته بالشتائم و السب و الغيرة على احترام القانون، حتى ينزوي بي بعيدا عن الأنظار، فأقدم له ما تجمع لدي من دراهم، ثم يصرفني مكرها فينعدم من أمام ناظري بسرعة البرق، كما تنعدم الشياطين و الأبالسة
ثم قالوا: تزوج يا عبد الله، تسعد، و يرزقك الله من حيث لا تحتسب. تلبسك امرأة من بنات الحلال و تلبسها، فتذوب فضتك البيضاء في ذهبها الأصفر. و أتت حليمة مطأطأة الرأس تتعثر في أذيالها. و إن كانت تلثغ في الكلام و تكثر من حك مؤخرتها بتلذذ. قلنا لا بأس هو الوحم. فلنصبر و لنصابر حتى تأتينا بغلام ننشؤه على الأخلاق و العلم، فننتفع منه و تنتفع معنا البلاد و العباد
بعد ذلك لم أعد أذكر شيئا. نسيت كل ما حفظته من أغان كنت أرددها بصوتي المبحوح. لم أعد أتذكر سوى لازمة واحدة
ما لي ربي ما لي؟
ما لي من دون الناس؟
قال و قد ربت على كتفي، بعد أن تعتعه السكر
ـ لقد صحبتني عشر سنوات، خبرتك فيها كما يخبر المجرب الحياة. طفت معي البلاد طولا و عرضا. حملت جرابي و نظفت ملبسي، و نظمت معي الحلقات و قاسمتني الطعام و الشراب، فما غدرتني و لا نهبت مالي. الآن أعلمك سر مهنتي
و هكذا أصبحت أحول الحجر إلى قطعة شوكولاتة لذيذة، و أبتلع شفرات الحلاقة الحادة، و ألفظ من فمي المناديل المزركشة، و أشرب الماء المغلي، و آكل قطع الزجاج البلورية، و أناطح كرات حديدية صلدة
قلت: لا تعجبوا، أ ليس هو أكل الخبز؟ اتركوني آكل خبزي كما يحلو لي
و قال أبوها: لم يعد لها معك مقام بعد اليوم. و من يدري؟ فقد تأكلها هي بنفسها في يوم ما. أو تخرج لنا من بطنها عجبا. أو تمسخها قردة ذليلة. دفع ابنته أمامه، و حمل الغلام بين يديه ثم صفق من ورائه الباب. و خلت أنه بصق
لقد كنت قلت في نفسي. هو ذا الرجل الكريم لم ينكر الصحبة الأليفة و مشاركة الطعام، فعلمني سر المهنة. قال لي محذرا: إياك أن تعرضها على الناس قبل أن تتمرن جيدا. الدقة في الصنعة أساس الفلاح، لا تتعجل و كن صبورا. الإتقان الإتقان. قلت لن يصلح لي مكان سوى بيتي، فاعتكفت فيه أياما، آكل الكؤوس و الطباق و أنطح السرير. انظري، انظري يا حليمة. ما هذه؟ أ ليست ملعقة. إنها ملعقة معدنية. المسيها لكي تتأكدي، أو اسمعي رنينها و أنا أخبطها بالشوكة.
" برجم. برجم. أوب
أين هي الملعقة؟ لم تعد هناك ملعقة. لقد أصبحت تفاحة. قولي لي بربك، و أصدقيني. هل لاحظت شيئا؟ أو انتظري بربك. هذا أحسن. انظري إلى هذا الغلام. أ ليس غلاما من لحم و دم.
اترك الغلام أيها الأخرق. أعدني إلى بيت أبي. إني خائفة. أنت حتما ساحر ملكك جنى خبيث.
" من ادعى بأنه يفهم الدنيا فهو كاذب. و من ادعى بأنه يفهم المرأة فهو أشد كذبا"
نظر عبد الله الأروح إلى الجراب و القبعة الوسخة الرابضين فوق التراب الأحمر. عيون الفضوليين تحرجه
بدأت الحلقات تنتظم هنا و هناك. الحواة و رواة العنترية و الأزلية و قارئو الكف. كان خائفا متهيبا. قال: لو كان معي الآن لشد من أزري. رغم أني عاشرته سنوات، أخال أني نسيت كيف كان يفتتح. ما علينا. ما هو آت، آت
وقف فتحلق حوله الجمع. قال: باسم الله نبدأ. انظروا يا عباد الله إلى هذا الجراب، و هذه القبعة. في طرفة بصر سيتحولان إلى شيء ما، بقدرة الله، لن أحدثكم عنه حتى تروه بأم أعينكم. اغمضوا عيونكم معي لحظة، ثم افتحوها
" برجم. برجم. أوب"
و لما فتح عينيه رآه
هوامش غير ضرورية
ـ في الواقع أن الراوي في هذه القصة القصيرة، غير دقيق الملاحظة و الوصف. فعبد الله الأروح قبل أن يبرجم كان قد دثر الجراب و القبعة بجلبابه الصوفي، و الراوي أصلا، لم يخبرنا أن عبد الله الأروح كان يرتدي جلبابا
ـ و في الواقع كذلك أن عبد الله الأروح لم يغمض عينيه مباشرة كما فعل المتحلقون ـ ربما كان يبيت أمرا ـ لكنه اضطر إلى ذلك ـ ربما بفعل المفاجأة ـ حين رآه يخترق محيط الحلقة بقبعته السوداء و لباسه الكاكي و حزامه ذي الهراوة و جراب المسدس، و حذائيه الغليظين
ـ و الواقع أخيرا، أن الناس حين فتحوا أعينهم و رأوا ما رأوا صفقوا.
ـــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة الأديب القصصية ( وجوه مفزعة في شارع مرعب)، الصادرة عن المنشأة العامة بليبيا سنة 1985م.(المحلاج)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إدريس الصغير
ولد الكاتب المغربي إدريس الصغير يوم 21 ماي سنة 1948 بمدينة القنيطرة ، بدأ النشر سنة 1966 ، وقد غطت قصصه جل المنابر الأدبية في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
يعتبر من كتاب جيل السبعينيات ، هذه التسمية التي تتجاوز التحقيب الزمني، لتعني، حدوث دفقة جديدة في الشكل الفني للقصة القصيرة العربية بعد هزيمة 1967 الرهيبة.
من أعماله المطبوعة:
- اللعنة والكلمات الزرقاء: مجموعة قصص مشتركة / إدريس الصغير وعبد الرحيم المودن/ دار لخليف، البيضاء، 1976
- الزمن المقيت: رواية/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1983
- عن الأطفال والوطن: قصص/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1985
- وجوه مفزعة في شارع مرعب: قصص/المنشأة العامة للنشر والتوزيع، طرابلس، .1985
- كونشيرتو النهر العظيم/دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1990
- أحلام الفراشات الجميلة/ دار البوكيلي، القنيطرة، 1995
- مينـاء الحظ الأخيـر (رواية مشتركة مع عبد الحميد الغرباوي)، دار الثقافة، البيضاء، .1995
- معالي الوزير: قصص/ منشورات شراع، طنجة، 1999
- حوار جيلين : مجموعة قصص مشتركة مع محمد سعيد الريحاني
عمل مراسلا أدبيا للعديد من المجلات ، منها آفاق عربية - الأقلام - المسيرة -
رأس تحرير مجلة « أشكال »
وعمل مدير تحرير لجريدة الغرب
المدونات
الجمعة، 1 أكتوبر 2010
حكاية عبد الله الأروح : إدريس الصغير
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات:
إرسال تعليق