الجمعة، 27 فبراير 2015

قصة قصيرة : روح حرّة! حسن شوتام

قصة قصيرة : روح حرّة! حسن شوتام
1.
عندما وقفتُ أمام الشباك الأوتوماتيكي، راودتني رغبة صريحة في طبع عينه الحمراء الدقيقة بوسطاي! منعتني فقط بطاقتي المدفوعة في أحد جانبيه و استغراقها في عملية السحب.. إنها روحي الحرّة.. روح تشتهي الانطلاق.. تأبى الانتظار و تسارع في تحطيم الموانع!     و أكثر ما يقلقها حدّ استعانتها بالجسد و حواسه لإعلان ثورتها؛ تلك الثقوب و الحفر المترصدة لحركتها و سفرها الأثيري كلّما سكن الجسد.. تلك العيون المفتوحة أبدا كالهاوية تشدّها قسرا إلى موانئ الراحة و الأمان و هي النقطة التي باركت لجج المحيطات و تناقلت سُبلها صلوات و أشواق الملاّحين في أعالي البحار!                  أخذت الأوراق المالية ثم خرجت من مجال مسح العدسة الدقيقة لأعانق فضاء يتأرّج هواؤه بطيب الورد البلدي.. روحي هنا غير محاصرة رغم وجود كاميرات ثابتة و متحركة و خارج النطاق المرئي.. يسهل اقتحام روحك الحرّة و تفكيكها عندما تصير رقما في بطاقة أو نسمة في بيانات الاحصاء على أنّ المسألة تغدو أصعب لمّا تنصهر في بوتقة الحياة و تضيع في زحمة الرؤوس الحالكة و اندفاعها اليومي. روحي الحرّة تسترخي في مثل هذه الأجواء، لا تنتظر أحدا و لا تستجدي أحدا.. ثمة ربما أحشاء رئفة تبكي خلاصها و لربما عين رحيمة تنتظر رجوعها.. لكن من يستطيع إيقاف روح حيّة لا تعي البتة إنطفاءها.. روح حرّة تؤمن فقط باشتعالها و استهلاكها اللحظي لأوكسجين الحياة!                                   
2.
أتواجد الآن في باحة خاصة بسيارات الأجرة، و الغريب أن هذه الأخيرة أضحت موقفا لجمهرة من المسافرين و مستودعا لأمتعتهم و حقائبهم المكدّسة دون أثر لعجلات تُدار و لا صوت فرملات تُكبح و لا رقم سيارة يُنادى به عاليا كما العادة.. الباحة خالية تماما و الانتظار وحده سيد الموقف! من حسن حظي أن الوسيط المكلّف بحراسة المحطة و ضبط حركة السيارات وفق ترتيب مُحدّد يقف على بعد ذراع مني فقط وفي يده قلم و رزمة أوراق صغيرة تشبه إلى حدّ بعيد تذاكر السفر؛ يعتمدها على الدوام عندما يفوق عدد المسافرين المُتاح من سيارات الأجرة و تسمح له بتعيين نوبة كل مجموعة مُؤلّفة من ستة أفراد. سألته عن سبب هذا الاحتباس البشري فأخبرني و الدهشة تعلو وجهه أن الدخول المدرسي من وراء هذه الحالة. استغربتُ بدوري لأن أزمة المواصلات تشتدّ قبل الأعياد الدينية بأيام و بعدها مباشرة وقلّما تحدث لأسباب أخرى في مثل هذه البلدات الصغيرة. أخذت منه ورقة لأنحشر في مجموعة قبل أن يستتب المكان أكثر بالمسافرين.. ذكّرني قبل أن أبتعد عنه بأنني مع المجموعة الثالثة..                                                     
دفعتُ الورقة الصغيرة تحت الصينية التي أحضرها نادل المقهى المقابل لساحة المحطة ثم بدأت في ارتشاف الشاي مُستمتعا بنكهة النعناع و متأمّلا هذا الحضور البشري بدهشة       ممزوجة بالإعجاب.. فليس أجمل من شعب يستنفر الهِمم لصدّ الحماقة و يوقظ النفوس المتعطشة للمعرفة و الحكمة و المتشوّقة لدخول دراسي جديد مثلما يشتاق المؤمن الدخول في راحة الله.. و ليس أقبح من ''أمة ضحكت من جهلها الأمم''! هل طيّ واقعنا الحافل بالهزائم ومضات لانبعاث جامع؟                                                         
أخذت رشفة أخيرة طويلة من حافة الكوب ثم وضعته على الصينية بقوة مقصودة مَنْعاً لتداعي الأفكار و توارد الأسئلة.. بيد أن روحي اللعينة وافتني بترجمة آنية لوقع كوب الشاي الفارغ و صدى رفيقته الصينية: طيّ واقعنا الحافل بالهزائم.. مزيداً من الكؤوس و الولائم!   تجاهلت الخاطر اللاّذع حتى لا يستحيل قراراً قهرياً أردّدهُ كلّما جلست إلى طاولة لأحتسي كوب شاي. عندما رفعت هامتي لأواجه عراء الباحة فاجأني أمران: دخول ثلاث سيارات أجرة إلى المحطة مرّة واحدة و ضياع ورقتي الصغيرة!                                    
4.
الوسيط يتجبّر في الميدان.. لا ينظر إلى الوجوه.. عينه فقط على الأوراق. الوسيط جمع البراعة من أطرافها.. براعة في ضبط عدد المسافرين.. براعة في توزيعهم إلى مجموعات صغيرة و ضمّهم كخُشيْبات بورقة صغيرة مُرقّمة.. براعة في عدّ و تفكيك أوراقهم المالية.. براعة في تكديسهم داخل المرسيدس و إخراجهم من المحطة بإضافة السابع؛ السائق رقم الكمال! المجموعة الأولى انتقلت إلى فضاء و فصل جديد.. المجموعة الثانية أيضا بنفس البراعة و على وجه السرعة. يحدث ذلك جبريّاً و كأنهم أرقام على جدول العدّ.. مسافر وحيد ثم ثان و ثالث لا يمنحك فرصة ترك الفصل البسيط. بوجود الرابع، يعظم أمَلُك.. فأنت في زمرة الفصل الألفي.. بمجيء الخامس و السادس و طلعة السائق بالضرورة تصيرون سبعة.. هنيئا أيها المسافر ستدخل فصل الملايين و تغادر المحطة البائسة حيث أقف أنا و زمرة المساكين!                                                                          
- الورقة.. الورقة.. نعم.. نعم.. وي..!                                                  
اللّئيم يُحصي الأوراق مُقطّب الجبين، لا يرضى بغير الورقة.. أذكّره بأني أنا المستفسِر عن سرّ الاحتباس البشري في باحة المحطة منذ حين و بأنّ يده المعروقة تلك منحتني التذكرة؛ الورقة التي انفلتت من ثقل الصينية في غفلة منّي. الخسيس يتلذّذ بانتظاري على مرأى من الجميع و كسابق عادته لا يتطلّع في وجوه المسافرين و كأنه يتّقي بذلك عيونا تُذكّره بأنه من عِداد المُتعبين!                                                                          - الورقة دليلي آسّي محمد!! خُذ تذكرة أخرى.. المجموعة الرابعة!                        المنحطّ عدّاد لا يرحم! تركتُ يده المُتصلّبة مُعلّقة وقد جمعتُ أمري على الرحيل..                                            
5.
تحملني روحي المشتعلة إليكَ.. بعيدا عن الزحمة، قريبا من الرحمة.. رحمة الملء و رحابة الفصل الخامس.. فصل العميان و الحمقى.. فصل المغضوب عليهم و الضالين.. فصل عابري السبيل التائهين.. فصل المدمنين و مضاجعي الذكور الحالمين.. أمشي الهوينى لا ألوي على أحد و كلّما تقدّمتُ تعطش روحي أكثر فأكثر لرذاذ حضورك الماكر المجهول. تُراني أخطأت عندما استسلمت لدعوتك و تفيّأت بجناحيك العريضين الآسرين؟ بغيض لذيذ لعبك حبيبي و مُسلّي.. تتركني للفح الفراغ و الصمت في عزّ احتقان البوح و في كلّ مرّة تذيقني الأمرّين قبل أن تسقيني عسلك السحري مُجدّد الاحتقان؟ ألهذا السبب جدّ في طلبك المفتونون في الجزر البعيدة و المنازل المهجورة و تحت القناطر المنسية؟ من حسن حظي أن أشرق وجهك ذات ليلة لي أنا المُبتلى في غرفة بسيطة من فندق.. لعمري إني حسن الحظ!                                                                                   
- ورزازات؟!*                                                                           
أخرجني سائق سيارة ''بيكوب'' من شرودي و حتى قبل أن يشير إليّ بالصعود ألقيت جسدي بخفّة داخل العربة مُتّخذا عجلة احتياط مسطبة للقعود. و لولا تنبّهي لوجود سائح يشاركني   المقصورة المفتوحة لأعلنت بأعلى صوتي أني إليك قادم و كلّي رغبة في خوض المغامرة  حتى آخرها هذه المرّة.. لست أدري من سيفرغ الآخر من احتقانه لكني موقن أنه على طاولة قدس أقداسنا؛ في الغرفة الصغيرة سنبارك معا نزالنا الأخير و لقاءنا الأخير..              
حسن شوتام
الجمعة12 دجنبر2014
 مدينة مغربية                                                                                                                        *

                

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 http://www.middle-east-online.com/?id=261035













 http://middle-east-online.com/?id=260883

Sample Video Widget