قصة قصيرة (شمس العشي ...قد غربت) !عبد الإله بسكمار
للمرة الثالثة خلال ذات الأسبوع الأغبر، ترمي في
وجهه الكتلة الورقية بفضاضة فيحس بسيف حاد
ينهش أحشاءه " أقول لك للمرة الألف يابوتليس ، أترك ما تحتاجه فقط وألق مالا فائدة
لك به خارج هذا المنزل " ألايتعسك هذا الغبار المتطاير بين الدفات والسطور القديمة
؟ " " ولكني محتاج إليها كلها يا سلوى ..." نبس بتهيب حتى لا يثير هياجها
مرة أخرى ....لم تلق بالا إلى هرائه فتابعت بحرقة " وهذه الحساسية التي تنتابنا
جميعا ...من الغبار والقدم والفيروسات ....ألا تخنقك ؟؟ " تلقى اللطمة بهدوء صقيعي
كعادته " من سابع المستحيلات ....لا يمكنه أن يتخيل تخليه عن تلك الكائنات الناعمة
المركومة بجانب أختها الخشنة ... المنسوجة من خلاصات الخشب ونسيج القطن والصمغ والمداد
والطبع والصور والخرائط والخطاطات والتمفهمات
والمتمخضة ورقا زاهيا وخطوطا أزهى وأمتع ...عصارات الخلايا الدماغية....عجب
واستغرب واستفهم ولعن في داخله .... ملتقيات المجانين لكثرة ما انتشر العقلاء ...حوارات
الأزمنة والفضاءات والأخيلة والأحلام...منتديات الكلمات الكبيرة ....خزائن أسرار التكوين
الأول ....أليس المطلق نفسه كلمات مجنحة ؟ أسفارا نزلت على أصفيائه الأخيار لإعادة ترتيب الماهيات وتطويق الخلاصات
؟...تذكر ياهذا ...يا بوتليس أنك في مرحلة
الخلاصات ....لم يبق في الجعب الشيء الكثير " أعاد ترتيبها للمرة الألف وكأن
شيئا لم يكن .... علق إبنه ذو الستة عشر ربيعا مفترضا ببساطة..." لو وزنت يا أبي
كل هذا الركام لحصلت بالكاد على مقابل زهيد
لمسل نقال " كل المأساة انه لا
يختار الوقت المناسب لإعادة التفكير فيها ...هذا أبو الحبر يغريك بتفاصيل الدواخل الملتبسة
والآخر أبو الورق المعتق ينبئك عن حقب التحول والتطور أو الانحدارلا فرق من الكائن القائم على إثنتين إلى الضبع الساعي على أربع....وقال لنفسه وهو يعيد
ترتيب الأندلس وتفاصيلها " لا شك أن التضبيع قد أطبق على الجهات الأربع ....لكن
ما الجدوى وقد حاصرتكم الأزرار من كل ناحية و...كيف تتقن العرنسية في بضع دقائق وتستطيع
أن تحصل على لحظة كاملة من لهيبك الصقيعي وتلهفك المستهلك الهالك لا محالة ..."
لعن الشيطان الرجيم وتمكن من وضع آخر سفر في الرف المقابل لصالون الجلوس
وخاطب طيفه للمرة الألف بعد الستمائة " أنت المعتوه دون ريب أما العقلاء فقد طلقوا
الأسفار وعرضوها في الجوطيات وتعلم أن أذكاهم باعها لأقرب بقال في الحي ....تدر عليك
في الأقل بعض الدريهمات ...ماذا بقي لهذه الكائنات
العطنة من بهاء ومعنى ؟" استلقى على الأريكة ولجأ إلى الزر الملعون فصفعته الأشباح
والأوهام وحشود المجانين والعقلاء ....مراسيم
الخراب المعمم .....حطام بشع وناعم معا يتوالى كبرمجة محكمة ....ما شئت أن تختار أو
بالأحرى أن يختار الزر لك زرر وزرزر ورزز
وزورولا تزر وازرة وزر أخرى وقبل أن يودع رفيق
الدرب الذي أكد له أنه أجرى تصفية أخيرة واحتفظ فقط بما ينفعه في صراطه غير المستقيم
.... أسر له في حنق " لقد عرت الأزرار كل الأسرار..." فوافقك على الملاحظة
وكأنه يضغط على زر هو الآخر ويبعث الإشارة ...لكن خدرا لذيذا داهمه ...أحاطت به الأرفف
من جديد ....بدون لعنة كائنات الحبرستربح موتك الصقيعي ....وتخونك المسافة حتما
....تجاذب الحبر والبياض لا يترك لك أن تختار .....
وبختني سلوى للمرة الألف " أسيادك يجمعون الفرنك
الأبيض أو الأصفر لليوم الأسود وأنت تراكم القبور الورقية قديمها والجديد
" هاهي تطعنه مرة أخرى في الصميم وحق لها.... " المسكينة لم تلحق معك خاتما ذهبيا واحدا تظهره لأخواتها وصواحبها
كعربون على حب غابر لم يبق منه إلا الرماد وطالما طعنتني في عمق الروح " أنت لا تحب إلا نفسك ثم تأتي باقي معشوقاتك
: الأوراق المتلاشية ...الخطوط المتهالكة ....الأرفف المتراصة .....وما تبقى نذرته
للأزرار....لعنها الله من حياة مفلسة " ....صعدت الشرارات إلى الدماغ رميت بالأزرار
وقمت إلى الرف الأول فجمعته بالغرفة الهامشية المخصصة في العادة للخراف وأعياد الأضاحي : من العمارة الحضرية إلى البلاغة
العربية واتجاها نحو غربة صالح في ثمود ....عبورا على متن سفينة الأندلس وتاريخ البحر
والتنشئة البحرية والبرية والهبات البشرية من سبارتاكوس وصاحب الزنج إلى الملتحي المقوبع
بأدغال بوليفيا ....أفرغت أو أفرغ بوتليس بعض
السوائل التي تضاعف اللهب في العادة ثم أوقدت
الشرارة ...تصاعد الشواظ من الصفحة الأولى.....المقدمات والتشكرات والصعوبات والمنعطفات
...العروض والتفاصيل الصغيرة والمتاهات الملتبسة .... تتحول بسرعة البرق إلى موجات
شعاعية متراقصة تنتهي إلى سواد فاحم شفاف ومن المقدمات إلى الخواتم ...اللهم أحسن عاقبتنا
في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة...
أحس باللهب يتصاعد مع الحر...لن تعود سلوى حتى يصبح
كل شيء رمادا فتريحني وأريحها ... ماذا لو أعلنت كل الكلمات إضرابها الشامل قبل أن
تحرقها ؟هاهي العملية تؤذن بالنهاية .... مراكمة آخر رف مع دفاته وكائناته الحبرية
العتيقة والمعتقة... يتصاعد اللهب دون انقطاع ....ثمة إحساس غريب بالخلاص ولنا بعد
ذلك اضطجاعا رائعا بعد رحلة الألف ميل التي تبدأ بخطوة واحدة كان عليك أن تخطوها من زمان ... تصاعد النفس وأحسست بيد ناعمة تنبهني إلى اتجاه الريح واللهب ، لكني لم أعد ألمحه
....هذا اللهب الإبليسي ....بل إن جمجمتي توجعني ....هاأنت في محطة الخلاصات ويتراقص
حولك سؤال الأسئلة " عباس ...وا عباس.... وا بوتليس ....ثقيل كعادتك ....في غيابات
الجب كالأبله ....استو على جنبك الأيمن فقد
ضايقتني الليل كله " قام إلى شربة ماء ثم إلى دورة المياه ....دور زر النور....
رباه الرفوف كما نسقها بالأمس بعد منازلته مع سلوى أتذكر" سلوى وجرس المنبه
"؟ .....اقترب من الرف الأوسط ...مد يديه إلى ذكريات مشاهير الوطن ولمحات من تاريخ
الروائح والعمائم ومنعطفات الأدمغة ……لم يصفعه أي لهب... لمس سفر السؤال بحنان رقيق
....نفس الخطوط واللمسات ....حنان لم يستشعره من قبل.. بل منذ سنوات خلت .....كلما
زاد سعار سلوى ازداد عناده " هذه صورتك انطبعت عليه ...نفس الملامح والنظرات البعيدة
....لم يأخذ منها الزمان شيئا " بالكاد اقتلع كائنات الحبر " عب....با....س.....بو....تلي....س" روى ريقه من ماء ليلي بارد وفكر في ترتيب جديد للرفوف ....
مع فائق التقدير،
عبد الإله بسكمار* | bessg_ghas@yahoo.fr
0 التعليقات:
إرسال تعليق