أريج البساتين يعطر هواء الأندلس.. عطراً فوّاحاً ينعش روح الحاكم.. الشاعر. الهائمة في موال الليالي الساحرة . وموسيقى القصر تشنف أسماع الحاضرين.. المحضوضين والمقربين.. وموكبه يتبختر قاطعاً طريقه من القصر إلى خارج المدينة، في رحلة صيد خريفية.. ثم رحلة سفر ميمون يضمن من ربحه زمناً آخر للتماهي والتناسي في أحضان مباهج الشعر وموسيقى الصبايا وغناء الحور..
لم يدرك الحاكم أن القدر ربما كان يخبئ له شيئا قذرا، غير الذي ما هو عليه اليوم.
ولربما تتغير الأحوال وتنقلب الأمور وتنفلت من بين يديه ، فتتنكر له الأيام وتنقلب عليه حياته الزاهية ، وهو ينشد قصائد الغزل على هتون دمع الصبايا وهَسْهَسِ ِالماء النازل من نفورات القصر المرصعة بالمرمر الأزرق الغامق المنمنم بالأبيض الفاتح . وشدو الطائر ألتفاحي يصدع في دهاليز القصر يحاكي الزمان بصوته .
قصائد عشق وأشعار غزل تكتب بماء الزهر على أروقة الفصول..
يحدث ذلك في اشبيليا عاصمة ملكه ، وعيون غربان الإفرنج ترقب نعمه وحياته الهادئة المطمئنة . فيغيضها قدر ظل يحياه.. يشوبه بذخ فاحشٌُ ، فتزداد أطماع ملك الإفرنج في رونقه وابتهاجه يوما بعد يوم ، وهو يرصد شدو أشعاره .
يعمد بذلك إلى إحداث شرخ بينه وبين أبناء عمومته المنتشرين في الجزيرة . يقصد من خلاله أن يقلق الملك الشاعر ، وباقي حكام الجزيرة.. من أولاد عمومته.
يفرض الملك الإفرنجي إتاوات تهدد كراسي حكمهم ، ومن يتعنت أو يرفض يكون مصيره التهديد والإرهاب والوعيد والتوعد بإطاحة ملكه.
تضيق على الملك الشاعر الأحوال ، فيبدو سجيناً لسياسة ملك الإفرنج، وإملاءاته اللا متناهية المستفزة التي كاد ت تخنق أنفاسه اللاهثة وراء فتون السحر والجمال ومباهج الصبايا وسحرهن الخارق الأخاذ.
بدا الحاكم قلقا متوجسا غاضبا في ذاك الصباح ، وقد قضى أياما مشغول البال متوتر النفس.. ينصت لمبعوث أرسل من طرف أسياده . يهدد ويتوعد ، إن هو لم يرضخ لأوامر أتى بها.. يطلب منه فيها أن ينفذ بنودها دون قيد أو شرط .
وما كاد الرسول ينتهي من تلاوة الرسالة ، حتى كانت ركلات الملك تدوس أضلعه وتكسر عظامه تكسيرا.. تتهاوى الصفعات وتلطم خده.. وشرع يذكره بالفضائل التي أنعم بها عليه فتناساها ، وظل يعدها عليه نعمة نعمة .
بدا الرسول ضعيفا مهزوما أمام غضب الحاكم ووحشيته، وسار بطش الملك به إلى الموت شنقا ، معلقا على باب المدينة وسيبقى خالدا هناك عبرة لكل من عمد إلى إغضاب الملك.. مستعطفا بدا الرسول وهو يكلم الملك. خائفا مرتجفا مترددا. طالبا الرحمة والعفو والشفقة:
" لست غير رسول لا حول له ولا قوة.. عفوك .. عفوك.. سيدي الملك.. "
لكن الغضب كان قد استبد بالملك وهو يرى فيه كلبا مسخرا يجحد لمولاه ، حكم السلطان وكان نطقه أمرا . وأمره تنفيذا..
يستغيث.. يستغيث رسول ملك الإفرنج ، وحراس الملك على الأرض يجرجرون جسده المرتعش على بلاط القصر الذي طفق يعكس مرارة الرسول وهوله , أثار الجسد المثخن بالدماء ترسم على بلاط القصر وشما.
يئن تحت وطأة الخوف لكن قدره كان كما نطق الملك.. مصلوبا على باب المدينة.. وكان ذاك جزاؤه..
***
عاشقة هي بنت السلطان ، حالمة بالفتى الذي يفتح أقفال قلبها ، كل فتيان اشبيليا يطلبون ودها ووصالها . يحلمون بالتقرب إليها.. سلطانة بنت السلطان.
لكن هيهات ثم هيهات ، من هذا الذي يجرؤ على طلب يد بنت الملك..!؟ إلا أحد أبناء تجار المدينة ، أبى إلا أن يفعل. أمر تلقاه من أبيه أمين التجار .
يتقدم الفتى مفعما بأمل الحصول على مبتغاه. يملأ قلبه سرور ، وتؤنس وحشته بشارة.
بين يدي الملك وقف مستجديا عطاءه . طالبا يخطب ود ابنته ، ويقبل الملك خطبته بفرح عارم، وتدق الطبول وتنفخ المزامير وتفوح رائحة أعواد الند في باحة القصر الواسعة وباقي أجنحته المتعددة .
لكن حفلات الزواج لن تتم في الوقت الراهن ، حتى يتمم الملك أشغاله ، وكان ذلك شرط الملك على الفتى العاشق .
قبل الفتى وأبوه بعرض الملك وهما يدركان أن مهمة الملك لن تكن سهلة مع ملك الإفرنج. قد تطول سنوات وسنوات.. حتى يدحر دعاة الفتن التي أشعلها بعض الخارجين عن طاعته في بعض مدن الجزيرة وقراها ..
كثرت الفتن وطال زمن الانتظار ، وظل العاشقين يعلقان أملهما على انتهاء العرض.. كم تمنيا أن يجمعهما سقف واحد ، ويتم ذلك في أقرب الآجال.. لكن ذلك بدا لهما بعيد المنال ، في ظروف كان وقعها يصعب يوما بعد يوم ، وسيطرة الملك لم تحكم قبضتها بعد على الجزيرة.. ولم يستطع أن يحصل على مراده..
يهيم الزمان وتسوء أحوال المدينة.. اشبيليا عاصمة ملكه وكل أحوال الجزيرة. فملك الإفرنج كان يبدو عازما على التنكيل بحكامها وإلحاق هزيمة شنعاء بهم معلنا كسر كبريائهم.. غدا أو بعد غد ، أن يحكم قبضته عليها..وأن يسفه حكامها..
***
شاعت أخبار عزل الحكام.. لم يتبق لسكان الجزيرة خيار آخر ، إلا الاستغاثة بالمسلمين المرابطين بالمغرب طالبين منهم التدخل لإنقاذ الجزيرة من براثين وتسلط الغازين وعلى رأسهم ملك الإفرنج الذي مافتئ يهدد ويتوعد، بل كان قد أعد العدة لامتلاكها بالقوة وسفك الدماء، في أيام تدهور حال حكامها وأحوالهم..
إن حضور المسلمين المغاربة إلى الجزيرة ، حضور أملته أمور الدين والدم والعرق.. كما أملته ظروف مرت بها الجزيرة.. والتقهقر الذي بدا على حكامها.
شرع ملك الإفرنج باقتناص أول مدينة صادفت زحفه الهمجي وكانت طليطة . وصل الخبر إلى حاكم اشبيليا فنزل على قلبه كصاعقة ، وأدرك من ذلك أن أجل حكمه بدا وشيكا إلى الزوال.
لم يكد السلطان يلملم أحواله وأغراضه وأن يستجمع أنفاسه ، حتى كان مبعوث أمير المسلمين ينزل بقصره ضيفا في أحد الأيام من أيام خريف بارد ويبلغه رسالة الأمير.. التي يطلب منه فيها التخلي عن المدينة ،بلهجة قاسية تركت أثرا سيئا في نفس الحاكم. ولم يعد له خيار آخر غير تنفيذ أوامر الأمير.
يقرأ الرسول الرسالة بعجل . ويظل الحاكم ينصت اليه بذهول إلى أن ينتهي من سردها . يلفه شرود ووهم وتهيم النفس في عالم الحسرة والندم.
".. ففي تدهور حكمكم أنتم ملوك الطوائف ، وعلى رأسهم أنتم حاكم اشبيليا وبعد تقاعسكم على حماية مجد الإسلام ودولته هنا في الجزيرة ، قررنا أن نأخذ بزمام الأمور، أقصد أمور الجزيرة. وهذه رسالتي إليكم ، فلتخرجوا منها حالاً ، وسترحّلون إلى مكان آمن يضمن لكم ولأهليكم عيشا كريما. تقضون به ما تبقى من أيامكم. "
لم يبق لحاكم الجزيرة اختيار آخر غير إطاعة أمر الأمير مكرها غير راض..
حزينا منكسر النفس ، بدا عند خروجه من مدينته اشبيليا . وهو يمر بدروبها وأزقتها ، يتذكر قصره وكرسيه الذي يتوسط قاعة فسيحة في إحدى أجنحة القصر ينمنم أطرافها مرمر أصيل لامع ، تطل بنوافذها المشرعة على بساتين قصره الفواحة، وشدو طائر الحسون يردد أشعاره أناشيد على أوتار صباحات الربيع المبتهج بأريج الياسمين..
يطول سفر الحاكم أياما وأيام وأهله برفقته . يرثون لحاله . يصل مقاما كان هو مكان نهاية السفر ، سيستقر به إلى أمد غير معلوم. وكان أغمات جنوب بلاد المغرب .
أقام في بيت بسيط لم يكن راضيا بالمقام فيه . ظل كذلك لأيام وشهور.. ولم يكن يدرك أن ذلك المقام هو سجنه إلى نهاية الحياة.. سيقضي فيه ما تبقى له من حياة.. ولم يعلم هذا إلا بعد فوات الأوان..
ظل ساكنا لا يتحرك إلا لأمر يستعجله. يجلس في مساءات الصيف بفناء البيت يترقب الفرج . يناجي حمام أغمات بأشعار خالدة ، أتاحت له فرص التعبير عن مشاعر شاعر .. صور بأحاسيسه اندهاش العالم لما آل إليه ملك كان في ما مضى يحكم عالما تركه هناك ورحل.
أشعار بكت لها سعف نخيل الصحراء.. وهدلت لحزنها حمائم الغاب.. على ماض سحيق له تاريخ في حياة بدت تذوب ذوبان الشمع في قارورة الزمن..
يحلم حلم الصبايا صباح مساء . مؤمنا أن ملكه وملك آبائه سوف يعود له قريبا في يوم ما.. حدث زوجه بذلك مرارا ، رثت لحاله ورقت لأحواله ، وهي تراه يذوب في ماض دفين.. لن يتكرر مهما دارت الأيام..
كشفت الأيام عن مصيره ، حيث بدا يصارع الزمن وهول المصائب التي نزلت به وحيث أضحى لا يجد ما يقتات به ، وصارت بنتاه بائعتان في أسواق أغمات لما كانت تغزل الوالدة من غزل الصوف في أسواق موحلة بأوحال عفنة ببقايا البهائم والبغال أيام الشتاء والأمطار الغزيرة..
يحضر العاشق الولهان باحثا عن حبيبته بنت السلطان ، ولم يكن يتوقع أن يرى ما رأى ، أن يراها على ذلك الحال بائعة للغزل في سوق للعوام ، قذرة موحلة الرجلين رثة الثياب ، شعثة الشعر.
كان لقاء آلم نفسها وحطم مشاعرها، لم تكن لترضى أن يراها فارس أحلامها على ذاك الحال.. ولم تتوقع أبدا أن يحدث ذلك في يوم ما .
بكت العاشقة بكاء مرا وبكى لبكائها حجر الوادي وصخر الجبل. فرق قلب الحبيب لحالها ومال ، وما هاجر أرضه إلا من أجلها ومن أجل وصالها. بحثا عنها وعن أهلها ، عن حاكم مدينته وولي نعمته.. قاطعا المسافات والفيافي..
ظلت حكاية يرويها في الطرقات وفي القبائل والمداشر والقرى.. وهو عائد الى وطنه.
سافر وقد ترك في قلبها أمل اللقاء من جديد ، لقاء ستحمل فيه عروسا إلى دياره . بعد عودة قادمة..
يطول الانتظار ، وتظل تنتظر قدومه إلى أن يخبو الأمل في نفسها ، كما تخبو نار المسافر في بيداء بريح خريف قاس..
تقضي لياليها ساهرة قرب باب البيت المسيج بالحرس . ترقب قدومه بشغف ، قد يطل عليها في وقت تكون فيه غائبة ، وهذا لا يرضيها ولا تريده أن يحدث .. أن تراه بعيدا يقترب شيئا فشيا حتى يذوب في ثنايا الروح.. عاشقة تصارع قسوة البرد ، وعيون الوالد المتعبة ترقب ظلها من نوافذ البيت المسيجة . يرسم آثاره على وجه الرمال ، تقضي لياليها.. ودفئ الأمل يسعدها ، تصارع كل الصعاب..
لم يعد العاشق ويطول الانتظار.. وتحدث المفاجأة ولم تكن سارة لها ولا لأهلها.. وتتوصل في أحد أيام الربيع برسالة منه ، يتأسف فيها لها إلى ما آل إليه حالها وحال أبيها، لم يكن غرضه من وصالها إلا طمعا في جاه أبيها .
أرسل كيسا من المال هدية منه لها بقدره تتدبر حالها وحال أهلها . بكت بكاء مرا حتى مزق الأسى قلبها العاشق وارتسم الحزن على وجهها الذابل . كانت صدمة عنيفة لها ولوالدها الذي طالما توقع حدوث ذلك.
هو الآن حاكم مهزوم ، يعيش أسوأ أيام حياته ، يتحرك داخل بيته مكبلا بالأغلال.
ويصدر عفو الملك ، وتفك القيود عنه .
حدث ذلك في صباح من أيام الخريف الأخيرة من ذلك العام.. السماء تلبدت غيوم رمادية اللون ، والفرح يرفرف فوق رأسه كحمام أغمات.. يسرع ليخبر زوجته وشريكة حياته بعفو الأمير الذي شمله ، لم تكتمل الفرحة، كانت الزوجة ترقد جثة هامدة على فراش الموت..
حزن الحاكم على فراقها حزنا عظيما.. وجاءت بعض أشعاره تحمل نُدُبَ الفراق والفراغ الذي تركته زوجته في حياته.. ازداد سقمه واشتد عليه المرض ، فبدا أن أجل وفاته بات وشيكا.
ينام على عتبة وسط فناء البيت.. يتوسد حجرا كان قد أحضره معه يوم خروجه من مدينته اشبيليا ، كان نوما أبديا لم يستفق بعده..
ممدا دون حراك ظل هناك.. وشاع خبر موته في كل أغمات ، وما يجاورها من قبائل، كما تشيع النار في الهشيم ، وصل الخبر أهل الجزيرة ، حزنوا على موت حاكم مدينتهم. كان.. أميرا كريما.. وشاعرا أصيلا..
كان إكرام الأمير المرابطي لحاكم اشبيلية أن أمر ببناء ضريح له ، عاد مزارا يقصده العامة من الناس من ربوع بعيدة ، نقش أسمه على صفيحة من المرمر الخالص . علقت قرب مدخل الباب على يمين الداخل ، هذا قبر المعتمد بن عباد.
وضع قبر زوجته اعتماد ملاصقا لقبره ، في إحدى غرف الضريح الفسيحة ، يضللهما سقف من أعواد الدفلى المزهر..
محمد بروحو/ المغرب
***
المدونات
الأحد، 10 أكتوبر 2010
نداء السماء: محمد بروحو
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات:
إرسال تعليق