الأحد، 30 مارس 2014

محــــــــمّد (تابع) عبد السلام خلفي


كان الوقتُ عصراً... وكانت تْلايْتْماسْ منهمكة في طحن القمح... على جانبها الأيسر فوق مصطبة خشبية متهالكة كان يتمددُ الابن الأصغر محمّادي ملفوفاً في خرقة بيضاء يميل لونها إلى حُمرة فاقعة بفعل تشربها الأوساخ ... وقف محمدٌ على عتبة الباب ينظرُ إليهما بعينين مشدوهتين... أحس بأحشائه تتقطع مثلما تتهشم حباتُ القمح بين رحى المطحنة الحجرية... أبوه على وشك العودة، وهو ما يزال لم يحفظ... أحست الأم بما يعتور الابن، فقالت له:
-         لا تخف يا ولدي. أبوك يحبك. لن يقتلك...
تقدّمَ إليها خطوة وقال لها:
-         أريد خبزاً... أريدُ خبزاً وزيتوناً...
قامت من مكانها واتجهت إلى ركن "تانوالت" حيث إناء الفخار الذي تضع فيه الخبز، أخذت لقمة متوسطة وأعطته؛ بادرها محمد:
-         والزيتون؟
عضّت الأم على شفتيها، وقالت:
-         ليس لدينا زيتون يا ولدي... سيصلُ أبوك بعد قليل من السوق... وسيأتي معه بالزيتون.
لقد كان اليوم يوم ثلاثاء، وكان سكان القرية يقطعون حوالي سبع كيلومترات للوصول إلى "سّوق ن تْراثا"؛ هناك كان أهل قبيلة "آيث سعيذ" يلتقون مرّة في الأسبوع... كانوا يحملون إليه كل ما ادّخرته سواعدهم كي يعرضوه للبيع... النساءُ يعرضنَ البيض والدجاج، والفلاحون يعرضون القمح والشعير والقطاني وبعض أنواع الخضر القليلة التي كانت تُدرُّها عليهم أرضٌ جبلية شحيحةٌ... والكسابةُ يعرضون بعض رؤوس أغنام منهكة أو بعض القطع اللحمية على طاولات من خشب قديم يميل لونه إلى السواد... لم يكن السي محند يحب السوق، ... كان ينعتُه بالغول... لقد كان يلتهم، كما يقول، كل ما يجمعه من فرنكات قليلة يُقدمها له أحياناً أطفال القرية الذين يتتلمذون على يديه في "لمسيد".. وبالرغم من أنه كان يُقسمُ أن لا يعود إليه في السوق المقبل، إلا أنه كان في كل مرّة يحنث... لقد كان مشدوداً إليه بقوة.. كأن روحاً ما شيطانية تسكنه، فتجرّه إليه جرّاً...
أحسّ محمد بخطوات حمار والده تتقدم متثاقلة في الطريق الضيقة وراء أشجار الصبار المحيطة بالمنزل... سمع الوالد ينهر الحيوان المسكين بصوته المبحوح:
-         رّا، رّا...
تلفت يمنة ويسرة... لم يدر ما يفعل... خاف أن يلحظه الوالد، فيوبخه بدون سبب... رجع القهقرى قليلاً... ولما تأكد أن الحمار ما زال بعيداً يخطو خطواته المتثاقلة بفعل الهزال وثقل من يركبه، اندفع كالسهم يجري لا يلوي على أحد في اتجاه الحقل ليختفي وراء أشجار الصبار المترامية ...
وصل السّي مُحند إلى الفناء الخارجي للدار... نزل... وتركَ حمارَه واقفاً في مكانه المعهود تحت شجرة الزيتون الكبيرة، ثم توجّه رأساً إلى "المْطْهّْرة" ليتوضأ... لقد كان العياءُ بادياً عليه... أكثر من حماره الهزيل... لم يلتفت إلى زوجته التي خرجت مسرعة وبادرت إلى تسلّم المشتريات القليلة الموضوعة داخل سلة مصنوعة من القصب... ناداها:
-         ماني دْجَانْ وامان؟
بسرعة أنزلت الزوجة السلة من على ظهر الحمار... لقد كانت شبه فارغة... قليلٌ من الزيت ... علبةٌ كبريت واحدة... بعض حبات الفلفل الحار ملفوفة في خرقة حمراء... ثلاث أجزاء صغيرة من السكر ملفوفة في ورق أزرق... وحوالي كيلوغرام من الدقيق الأغبر في كيس رمادي... فتشت علها تجد الزيتون... لكنها لم تجد شيئاً... قالت في نفسها متنهدة:
-         مرّة أخرى لم يشتر الزيتون...
انتبهت إلى وجود قطعة قصب أسفل السلة ... أخذتها... كانت مُغلقة بإتقان ... حاولت فتحها... فجأة تساقطت منها ستّ رصاصات صفراء اللون... أمعنت النظر فيها... وقفت متجمدة ... تهاطلت عليها أسئلة الدنيا والدين...
-         من أعطى السي محند هذه الرصاصات؟ هل اشتراها؟ ماذا يريد أن يفعل بها؟
تذكرت كيف تمّ قتلُ "موح أسرايمي" منذ أسبوع من طرف المجاهدين كي يستولوا على ثمار أشجاره ودواجنه القليلة ... لقد كان الأغنى في القرية رغم ضآلة ما يملك... فهو الوحيد الذي كان يملك بُستاناً مثمرة بعضُ أشجاره... وزوجته، "تاوْنْزا"، كانت الوحيدة أيضاً بين نساء القرية من يملك ديكاً ودجاجتين وثلاثة أرانب... إذ بفعل القحط الذي طال وبفعل الحرب ومرض "بوجيار" الذي أهلك الحرثُ والضرع لم يعُد السكان يملكون شيئاً... حتى ما يأكلونه... لقد كان الجميع يقتات على "إيارني"... وهو نباتٌ مسمومٌ تمتدُّ جذورُه عميقاً في الأرض... كانوا يحفرون طيلة اليوم ليستخلصوا القليل من الجذور ويطبخوها... ويا ويل من لا يعرفُ طبخها... فقد كانت تتحول إلى سُمّ تُقطّعُ أحشاءهم...
لم يكن "مّوح أسرايمي" رجلاً سهلاً، فقد كان حذراً ويمتلكُ بندقية يُحسن استعمالها عند الحاجة، كما كان ذا بنية قوية رغم الهُزال الظاهر عليه... تذكرت تْلايتْماسْ يوم مقتله من طرف المجاهدين... كان اليوم يوم خميس... وكان الجو صحواً إلا من غمامات تعاند نسائم البحر ... خرجَ مساء ذلك اليوم يتفقدُ بعض الشجيرات المثمرة في منحدر "إغزار ن يبو"... ولما وصل انتبه إلى حركة مريبة داخل بستانه... تحفز، وأنزل بندقيته من على ظهره، لكنه قبل أن يوجهها صوب مصدر الخطر كانت رصاصتان غادرتان تنطلقان من وراء كومة من الصخور فترديهُ قتيلاً... كانت تْلايْتْماسْ في الجهة الأخرى من الواد... تفاجأت بلعلعة الرصاصتين... وشاهدت "بويذمارن" يقفز وراء كومة الصخور ثم ينطلق كالمذعور وإلى جانبه صديقه "حدو أمقران"... أرادت أن تصرخ بملء فيها، لكنها قدّرت خطورة الفعل... اختبأت وراء شجرة... انتظرت إلى أن اختفى بويذمارن وصديقه المتواطئ، ثم حملت رجليها إلى البيت...لم تُخبر أحداً... وهل تقدر؟ حتى زوجها لم تُخبره... الخوف... نعم الخوف... الخوف من انتقام "بويذمارن" تملكها... لم يكن "موح أسرايمي" خائناً كي يُقتل... لقد شارك أكثر من مرة ببندقيته في ردّ عدوان بعض كتائب الأسبان... ولكن "بويذمارن المجاهد" قتله... قتلهُ دون رحمة... هكذا كانت تردد ْتلايْتماسْ لما بلغ بها العمر عُتياً... وظلت تنصح حفدتها أن لا يقتربوا من أبناء "بويذمارن" وحفدته:
-         إسمعوا يا أبنائي... لا تقتربوا أبدأً من أبناء وحفدة "بويذمارن" فهم قتلة...
كان الحفدة يسألونها مندهشين:
-         كيف تقولين ذلك يا جدتي؟ إن "آيث بويذمارن" أُناسٌ طيبون... لم نسمع عنهم إلا الخير...
كانت ترد عليهم بعنف:
-         لا... لا يا أولادي... أنتم لا تعرفون شيئاً... لقد قتل "بويذمارن" "موح أسرايمي" من أجل الاستيلاء على ثمار أشجاره وعلى جميع دواجنه... قتله بتواطؤ مع "حدو أمقران"... في المساء قتلاه ... أخذوا ثمار الأشجار... وفي الصباح دفناه مع الدافنين ثم عادوا إلى بيته، وذبحوا دجاجاته، وطبخوها وأكلوها...
لقد تأثرت تْلايْتْماسْ كثيراً لاغتيال "مّوح أسرايمي"، ولذلك فإنها لما وجدت الرصاصات الموضوعة بإتقان داخل تجويف القصب في أسفل السلّة، خافت أن يكون زوجها قد التحق بالمجاهدين دون أن تعلم... حاولت أن تطرد عنها هذه الفكرة... وأقنعت نفسها بأن زوجَها فقيه، والفقهاء عادة لا يلتحقون بالمجاهدين... أي نعم... هم يحثّون على الجهاد... ولكنهم لا يحملون البندقية أبداً... أخذت كل المشتريات واتجهت بها إلى البيت... ناداها السي مُحند:
-         هل حضّرت الغذاء؟
لم تردّ عليه... اتجهت رأساً إلى "تانْوالْتْ"، أخذت طبَقاً مملوءاً فوقه نصف رغيف ثم وضعتهما بين يديه على الأرض... اقتعد الجلسة وسط البيت وأخذ في التهام ما وُضعَ أمامه بلذة... كان يقتطع أجزاء من الخبز ثم يغمسها في بركة ماء ملوّن تسبحُ فيها حباتُ بطاطس يتيمة وتائهة داخل الطبق الخزفي العريض... نبّهها:
-         قلتُ لكِ أكثري البطاطس...
لم ترُدّ عليه... هو يعلم أن لا بطاطس في "تنوالت"... ألقت بعينيها تجاه الباب متوسمة دخول ابنها محمد... سألها:
-         ماذا فعل اليوم "بوهارّو"؟ (يقصد محمد)
ردت عليه:
-         منذ الصباح وهو يحفظ !!
هزّ رأسه غير مُصدق... ثم أضاف يسألها:
-         وأين وضعت محمادي؟
تذكرت تْلايْتْماسْ أنها نسيت محمادي في "آروا" وحيداً... ارتعدت فرائسُها أن تكون قد لسعته حية أو حشرة سامة ... ذهبت مسرعة... وجدته مستيقظاً... وعلى وشك السقوط من فوق المصطبة الخشبية... لم يكن يتجاوز عمره ثمانية أشهر... أخذته بخفة وحنان... احتضنته، ثم وقفت به أمام الباب تنظر أين محمد... لم تجد له أثراً... طمأنت نفسها:

-         سيعود عندما سيشتدُّ به الجوع !

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 http://www.middle-east-online.com/?id=261035













 http://middle-east-online.com/?id=260883

Sample Video Widget